النحو العربي قبل أبي الأسود الدؤلي
النحو أصل علوم العربية ، وأقدمها نشأة ، وأغزرها مادة وتأليفا ، وقد كُتبت بحوث كثيرة عن نشأته وتأريخه ، قديما وحديثا . وكان رأي الأكثرين من المتقدمين أن أبا الأسود الدؤلي (ت69هـ) هو أول من وضع أسس النحو العربي ، لكن عددا من الباحثين المحدَثين تشككوا في ذلك ، وعد بعضهم ذلك حديث خرافة . ومن ثم قد يبدو عنوان هذا البحث ضربا من الخيال ، إذ بينما يجادل المؤرخون المحدثون في دور أبي الأسود في نشأة النحو العربي يشير عنوان البحث إلى أن للنحو العربي قبل أبي الأسود وجودا يحاول كشفه والحديث عنه .
إن موقف المؤرخين المحدثين لا يخلو من قصور في النظر وتعجل في استخلاص النتائج ، وعلى الباحث المدقق ألا يصده هذا الموقف عن تفحص الوثائق التأريخية والنصوص اللغوية المتعلقة بالموضوع ، وتقويمها من وجهة النظر العلمية المحضة ، واستخلاص ما يمكن أن تدل عليه بشأن هذه القضية .
والذي حملني على إعادة دراسة الموضوع هو وقوفي على روايات لم يطلع عليها المؤرخون المحدثون للنحو العربي ولم يشيروا إليها ، وهي وما يمكن أن يضاف إليها تقدم تصورا جديدا لنشأة النحو العربي ، كما أن الروايات الأخرى التي بأيدي الباحثين يمكن أن تفهم على نحو جديد أيضا .
إنني في هذا البحث لن أتجاوز الحقبة التي عاش فيها أبو الأسود ، ولن أتتبع تطور الدرس النحوي العربي بعد أبي الأسود وتلامذته ، لأن ما كتب عن تأريخ النحو بعد أبي الأسود شيء كثير يكفي في إعطاء صورة واضحة عنه ، لكن نشأة النحو وبداياته لا يزال الباحثون يشيرون إلى غموضها والاختلاف فيها ، ومن ثم فإن هذا البحث يسعى إلى تبديد الغموض وإعطاء تصور واضح عن بدء النشاط اللغوي العربي المنظم ونشأة النحو العربي ودور أبي الأسود في تلك النشأة ، وأرجو أن يحقق البحث ذلك أو بعضه ، والله تعالى الموفق للصواب ، وإليه المرجع والمآب .
المبحث الأول
نشأة النحو العربي في الدراسات القديمة والمعاصرة
أدرك مؤرخو النحو العربي الأوائل أن نشأة النحو مرتبطة بظهور النموذج اللغوي الموحد الذي يحرص المتكلمون على احتذائه ، وبروز ظاهرة الإخفاق في تحقيق ذلك النموذج أحيانا ، وهو ما يطلق عليه مصطلح ( اللحن ) ، وقد تهيأ هذا الظرف بعد نزول القرآن وانتشار الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية ، يقول أبو الطيب الحلبي (ت351هـ) : « واعلم أن أول ما اختل من كلام العرب فأحوج إلى التعلم الإعرابُ ، لأن اللحن ظهر في كلام الموالي والمتعربين من عهد النبي » .
وعبر أبو بكر الزبيدي (ت379هـ) عن هذه الحقيقة على نحو أكثر تفصيلا حيث قال : « ولم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان ، فدخل الناس فيه أفواجا ، وأقبلوا إليه أرسالا ، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة ، واللغات المختلفة ، ففشا الفساد في اللغة العربية ، واستبان منه في الإعراب الذي هو حَلْيُها ، والموضح لمعانيها ، فتفطن لذلك من نافر بطباعه سوء أفهام الناطقين من دخلاء الأمم بغير المتعارف من كلام العرب ، فعظم الإشفاق من فُشُوِّ ذلك وغلبته ، حتى دعاهم الحذر من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم إلى أن سببوا الأسباب في تقييدها لمن ضاعت عليه ، وتثقفيها لمن زاغت عنه » .
ويؤيد الباحثون المحدثون مؤرخي النحو العربي الأوائل في ذلك ، فيقول الأستاذ سعيد الأفغاني : « يعتبر اللحن الباعث الأول على تدوين اللغة وجمعها ، وعلى استنباط قواعد النحو وتصنيفها ، فقد كانت حوادثه المتتابعة نذير الخطر الذي هب على صوته أولو الغيرة على العربية والإسلام » .
ومع اتفاق الباحثين على سبب نشأة النحو العربي نجدهم مختلفين في تحديد البادئ بوضع أسسه ، وفي تحديد طبيعة الملاحظات الأولى التي عدت اللبنة الأولى في بنيانه الشامخ ، ويمكن أن نعرض وجهات نظرهم بتقسيمها على قسمين : الأول يمثل رأي العلماء الأوائل ، والثاني يمثل رأي الباحثين المحدثين ، وإليك ملخص ما قالوه في هذا الموضوع .
أولا : رأي العلماء الأوائل في نشأة النحو العربي :
قال السيرافي : « اختلف الناس في أوائل من رسم النحو ، فقال قائلون : أبو الأسود الدؤلي . وقال آخرون : نصر بن عاصم الدؤلي ، ويقال الليثي ، وقال آخرون : عبد الرحمن بن هرمز . وأكثر الناس على أبي الأسود الدؤلي » .
إن ما ورد في المصادر القديمة يؤكد ما ذكره السيرافي من أن أكثر الناس يذهبون إلى أن أبا الأسود هو أول من رسم النحو . وأقدم ما اطلعت عليه من النصوص التي تنسب ذلك إليه ما رواه الحلبي عن أبي حاتم أن قتادة بن دِعامة (ت117هـ) محدث البصرة ، قال : « أول من وضع النحو بعد أبي الأسود يحيى بن يعمر » . وهو قول يقرر سبْق أبي الأسود في وضع النحو . وقتادة من طبقة تلامذة أبي الأسود ، وهو يعرفه ونقل عنه بعض الأخبار .
ومن الروايات القديمة التي تنسب وضع النحو إلى أبي الأسود ما نقله السيرافي والزبيدي عن عاصم بن أبي النجود (ت128هـ) قارئ أهل الكوفة المشهور ، أنه قال : « أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي » . وكان عاصم ، وهو من طبقة تلامذة الدؤلي ، مشهورا بالفصاحة ، وقال عنه تلميذه أبو بكر بن عياش : « كان عاصم نحويا فصيحا » .
وقال محمد بن سلام الجمحي (ت231هـ) : « وكان لأهل البصرة في العربية قُدْمَة ، وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية . وكان أول من أسس العربية وفتح بابها ، وأنهج سبيلها ، ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي ، وهو ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل ، وكان رجل أهل البصرة ... وإنما قال ذلك حين اضطرب كلام العرب فغُلبت السليقة ، فكان سراة الناس يلحنون ، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم ... وكان ممن أخذ ذلك عنه يحيى بن يعمر ... وأخذ ذلك عنه أيضا ميمون الأقرن ، وعنبسة الفيل ، ونصر بن عاصم الليثي ، وغيرهم » .
وهذا رأي عامة المؤرخين الأوائل للنحو العربي ، مثل الحلبي ، والزبيدي ، وابن النديم ، « فأما زعْم من زعَم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز بن الأعرج ، أو نصر بن عاصم ، فليس بصحيح ، لأن عبد الرحمن أخذ عن أبي الأسود ، وكذلك أيضا نصر بن عاصم أخذ عن أبي الأسود » .
وجاء في رواية قديمة نقلها الزبيدي عن المبرد (ت282هـ) قال : « سئل أبو الأسود الدؤلي عمن فتح له الطريق إلى الوضع في النحو وأرشده إليه ؟ فقال : تلقيته من علي بن أبي طالب ، رحمه الله ، وفي حديث آخر قال : ألقى إليّ عليّ أصولا احتذيت عليها » . ومن ثم فإن بعض المؤرخين قال : إن أول من وضع النحو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأنه هو الذي وجّه أبا الأسود وأرشده إليه .
وقد اختلف الناس في السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو ، وإن كانت الروايات جميعا تشير إلى وقوع اللحن من أناس كثيرين ، فبعض الروايات يشير إلى أن أعرابيا أخطأ في قراءة قوله تعالى : ( أن الله بريء من المشركين ورسولُه ) [التوبة:3] ، ومنها ما يشير إلى لحن بعض العرب عند زياد والي العراق ، أو لحن رجل فارسي سمعه أبو الأسود في البصرة ، أو لحن ابنة أبي الأسود ، أو نحو ذلك ، مما جعل أبا الأسود نفسه أو بطلب من عمر بن الخطاب ، أو علي بن أبي طالب ، أو زياد والي العراق ، يعمل شيئا يُصلح الناسُ به كلامهم ، وكذلك نقّط المصاحف فجعل الفتحة نقطة فوق الحرف ، والكسرة نقطة تحت الحرف ، والضمة نقطة أمام الحرف ، وجعل التنوين نقطتين ، بلون يخالف لون المداد .
أما مقدار ما وضعه أبو الأسود من أبواب النحو فإن المصادر القديمة تشير إلى ضآلة ما رسمه . قال الحلبي : « فوضع شيئا جليلا ، حتى تعمق النظر بعد ذلك وطوّلوا الأبواب » . ويمكن أن نعرض ما ذكرته المصادر حول هذا الموضوع في النقاط الآتية :
1- وضع باب الفاعل والمفعول ، ولم يزد عليه . وينقل ابن النديم في كتابه «الفهرست» أنه رأى أربع ورقات قديمة ترجمتها : «هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود ، رحمة الله عليه ، بخط يحيى بن يعمر ... » .
2- وضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم .
3- جاء في بعض المصادر المتأخرة أن الإمام علي بن أبي طالب t ألقى إلى أبي الأسود صحيفة أو رقعة فيها : الكلام كله اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل .. واعلم أن الأشياء ثلاثة : ظاهر ، ومضمر ، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر ، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر ... إلخ » .
وفي هذه الرواية من التفصيل والمصطلحات ما لا يتناسب وذلك العصر ، مما حدا ببعض الباحثين المحدثين إلى التشكك في صحتها ، ووصمها بأنها حديث خرافة . ولا أحد ينكر الصلة الوثيقة بين الإمام علي وأبي الأسود وما يمكن أن يجري بينهما من حديث عن اللحن وقضايا اللغة ، لكن خلو المصادر القديمة من هذه الرواية ، وطبيعة أسلوبها ، يبعث الشك في أصالتها .
كان أول من أصّل النحو - إذن - وأعمل فكره فيه أبو الأسود الدؤلي ، ثم نصر بن عاصم ، وعبد الرحمن بن هرمز ، فوضعوا للنحو أبوابا ، وأصّلوا له أصولا ، وكان لأبي الأسود في ذلك فضل السبق وشرف التقدم ، ثم وصل ما أصّلوه من ذلك التالون لهم ، والآخذون عنهم ، فكان لكل واحد منهم من الفضل بحسب ما بسط من القول ، ومد من القياس ، وفتق من المعاني ، وأوضح من الدلائل ، وبين من العلل .
ثانيا : رأي الباحثين المحدثين في نشأة النحو العربي :
ذهب عدد من الباحثين المحدثين إلى غموض نشأة النحو العربي ، فقال بروكلمان : « يبدو أن أوائل علم اللغة العربية ستبقى دائما محوطة بالغموض والظلام » وهو يعُد ما ينسب إلى أبي الأسود وتلامذته من قبيل الأساطير . ويقول أحمد أمين : « وتاريخ النحو في منشئه غامض كل الغموض ، فإنا نرى فجأة كتابا ضخما ناضجا هو كتاب سيبويه ، ولا نرى قبله ما يصح أن يكون نواة تبين ما هو سنة طبيعية من نشوء وارتقاء ، وكل ما ذكروه من هذا القبيل لا يشفي غليلا » . ويقول حسن عون : « لا يزال الباحث في حيرة من أمر النحو العربي ، ومن الظروف التي لابست نشأته ... » .
وذهب الأستاذ إبراهيم مصطفى إلى أن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت117هـ) تلميذ أبي الأسود الدؤلي هو أول من وضع أسس القواعد النحوية ، وأن أبا الأسود اقتصر على نقط المصاحف ، وحجته في ذلك قوله « إننا لم نجد في كتاب سيبويه ولا فيما بعده من الكتب رأيا نويا نُسب إلى أبي الأسود ولا إلى طبقتين من بعده ، فنحن أمام حقيقة واضحة أُخذت من كتب النحو ، وهي أن أقدم من يُنسب إليه رأي نحوي هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي » .
ويذهب أكثر الباحثين المحدثين إلى أن الأسود الدؤلي هو الذي أرسى اللبنة الأولى في تاريخ النحو العربي ، إلا أن معظمهم يفسر تلك اللبنة بتنقيط المصحف بنقاط الإعراب . يقول الأستاذ أحمد أمين : « ويظهر لي أن نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح ، وذلك أن الرواة يكادون يتفقون على أن أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط . وهو أنه ابتكر شكل المصحف » . ويقول حسن عون : « إن اللبنة الأولى التي أرساها أبو الأسود الدؤلي في بناء النحو العربي كانت شكله القرآن عن طريق النقط » .
وقال الدكتور شوقي ضيف وهو يعلق على الروايات التي تنسب وضع النحو إلى أبي الأسود وتوضح الأسباب التي دفعته إلى وضعه : « وكل ذلك من عبث الرواة الوضاعين المتزيدين ، وهو عبث جاء من أن أبا الأسود نُسب إليه حقا أنه وضع العربية ، فظن بعض الرواة أنه وضع النحو ، وهو إنما وضع أول نقْط يحرر حركات أواخر الكلمات في القرآن الكريم » .
وقال الدكتور عفيف دمشقية : « الحقيقة العلمية الوحيدة التي يمكن الركون إليها في المرحلة الأولى لنشأة النحو العربي ، حقيقة كون الدؤلي واضع نقط الإعراب الذي اعتبر على أساسه الواضع الأول للنحو » .
وقال الدكتور عبد الحميد السيد طلب : « أما ما يصدقه العقل والمنطق مما نسب إلى أبي الأسود الدؤلي فهو أنه رأى نقط المصاحف بعلامة مميزة للفاعل والمفعول والمجرور تمييزا عمليا » .
وظهر من بين الباحثين المعاصرين من أكد على أن أبا الأسود الدؤلي هو مؤسس النحو العربي إضافة إلى نقطه المصحف ، فيقول الأستاذ سعيد الأفغاني : إن من يقرأ ترجمة أبي الأسود وما ورد في أكثر المصادر القديمة من أنه أول من وضع العربية ونقط المصاحف ، وأن له تلامذة أخذوا عنه العربية وقراءة القرآن في البصرة ، كل أولئك مع ما عرف عن أبي الأسود من ذكاء وقّاد ، وفكر متحرك ، وعقل وروية ، يجعلنا نقطع بأنه وضع أساسا بنى عليه مَن بعده ، ولكن ما هو هذا الأساس ؟ لسنا نجد لهذا السؤال جوابا يشفي الغليل .
ولعل أكثر الباحثين المحدثين تدقيقا في نشأة النحو العربي ودور أبي الأسود في وضع أسسه هو الدكتور عبد الرحمن السيد ، في كتابه ( مدرسة البصرة النحوية ) ، الذي عرض الروايات القديمة ثم أكد أن اختلاف الروايات ليس دليلا على كذبها ثم يقول : « الحق أن النفس تميل إلى تعدد الأسباب والأخطاء ، وأن هذا التعدد في الخطأ والتنوع فيه هو الذي حفز الهمة ، وقوّى الرغبة في محاولة التخلص منه ، ومن هنا وُضع أساس هذا العلم » .
وهو يؤكد أن أبا الأسود هو مؤسس هذا العلم وواضع أول حجر في صرحه ، وهو لا يعني أنه وضع علما كاملا ناضجا وإنما يقصد « أنه فكر في وضع قواعد عامة يمكن أن تحفظ على اللغة سلامتها ... » . ثم يقول : إن الأبواب النحوية التي تنسب المصادر القديمة إلى أبي الأسود وضعها تتعلق بمناسبات خاصة وردت في الروايات القديمة ، ولا بد أنه عرضها عرضا ميسرا مفهوما يناسب حاجة أهل زمانه .
وهو يربط بين نقط المصاحف واستخلاص القواعد النحوية لأنه في رأيه « لا يستطيع أحد أن يدعي أن عالما مشهودا له بالتقدم ... ينقِّط المصحف كلمة كلمة ، ويلاحظ حركات حروفه حرفا حرفا ، ويفعل ذلك في دقة وبراعة ، ثم يخرج من عمله هذا دون أن تتكون لديه فكرة أولية عن عمل بعض الأدوات ، أو عن حركة بعض الكلمات ذات الوظيفة المتشابهة والوضع المتحد ، اللهم إن أن يكون راسخ القدم في الغباء ، بعيدا عن صفات أبي الأسود بُعد الأرض عن السماء » .
وما ورد في بعض المصادر القديمة يؤيد وجهة النظر هذه ، فقد نقل أبو بكر الأنباري الرواية الخاصة بنقط المصاحف ، وجاء في آخرها « فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره ، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك » . ويقول ابن قتيبة إن أبا الأسود يُعد من النحويين « لأنه أول من عمل في النحو كتابا » . ولا يتيسر الآن القطع بأن كتاب أبي الأسود في النحو هو تلك الورقات الأربع التي اطلع عليها ابن النديم بخط يحيى بن يعمر ، التي ذهب خبرها منذ عصر ابن النديم .
وبلغت جهود الباحثين المحدثين ذروتها بظهور كتابين يبحثان في نشأة النحو العربية وتطوره حتى عصر سيبويه ، وهما :
الكتاب الأول : الحلقة المفقودة في تاريخ النحو العربي ، تأليف الدكتور عبد العال سالم مكرم ، الذي يقول في مقدمته : « وقد شعرت منذ أن اشتغلت بالنحو العربي بأن هناك مرحلة مفقودة في تاريخ النحو العربي تمتد من عصر أبي الأسود إلى عصر الخليل وسيبويه » . وقد تكفل الكتاب ببيان تاريخ النحو وتطوره في هذه المرحلة .
ويرى المؤلف « أن قضية نشأة النحو مرتبطة بالمعارف السابقة للعرب في الجاهلية وفي العصر الإسلامي ، وبخاصة في مجالي القراءة والكتابة » . وهو يرى لذلك « أن أبا الأسود حلقة في سلسلة المعرفة اللغوية ... ولكنه برز في مجالها ، وزاد نشاطه في حقلها فنسبت إليه نشأة أضخم علم شغل الناس قرونا طويلة وما زال يشغلهم إلى وقتنا الحاضر » .
الكتاب الثاني : المفصَّل في تاريخ النحو العربي ( الجزء الأول : قبل سيبويه ) تأليف الدكتور محمد خير الحلواني ، الذي يقول في مقدمته : « وقد عُنيت في هذا الجزء بالكشف عن نمو النحو في المرحلة الغامضة مرحلة أبي الأسود وتلامذته ، وهي مرحلة وقف حيالها الباحثون في الشرق والغرب شاكين حائرين ، ونعتوها بأنها مرحلة مظلمة في تاريخ النحو العربي لا يمكن أن يبلغها البحث العلمي » .
ويقول مؤلف الكتاب : « والحق أن نشأة النحو ترتبط بجذور الحياة الإسلامية في ذلك الزمن ، وترتد إلى ما ترتد إليه نشأة العلوم الأخرى من لغوية ودينية وفلسفية ، وكان القرآن الكريم محور هذه الجذور ، وهو الركيزة الأساسية فيها ، وإذن فإن نشأة العربية - بمعناها الاصطلاحي - انطلقت من قراءة القرآن » . وهو يقرر أن أبا الأسود الدؤلي نقط المصحف ، ووضع أسس النحو العربي لكنه ينفي أن يكون قد ألف كتابا في النحو ، بل كان يعلِّم النحو .
***
إن نسبة وضع أسس النحو العربي إلى أبي الأسود الدؤلي تبدو طبيعية في ظل الظروف اللغوية التي أعقبت الفتوح الإسلامية ، والتي تتمثل بانتشار اللغة العربية بين الأمم التي دخلت في الدين ، وتتمثل أيضا بامتزاج العرب الخُلَّص بأهل اللغات الأخرى ، ولما كانت العربية لغة القرآن ولسان الدين فإن المحافظة عليها وتيسير تعلمها كان من الأعمال التي يحرص عليها الخلفاء والولاة والعلماء ، وهو أمر انتهى بتدوين قواعد اللغة العربية على يد أبي الأسود الدؤلي لأول مرة ، بعد مرحلة من الملاحظات الشفهية كان المهتمون بأمر سلامة اللغة يتداولونها .
إن هناك معارف لغوية تسبق جهود أبي الأسود الدؤلي ، كما يبدو من عدد من الروايات والوقائع ، وإن أبا الأسود حين نقّط المصحف ووضع بعض أبواب النحو كان يستخدم تلك المعارف اللغوية ويعمل على تعميقها وتوسيعها . وهذه القضية هي ما نحاول الكشف عنه في المبحث الثاني ، إن شاء الله تعالى .
المبحث الثاني
النشاط اللغوي قبل أبي الأسود الدؤلي
نعني بالنشاط اللغوي هنا الملاحظات والأقوال التي صدرت من عدد من أولي الأمر والعلماء وهي تهدف إلى تصحيح خطأ لغوي أو إلى ترسيخ صورة النطق الفصيح ، في الحقبة التي سبقت ظهور أبي الأسود في البصرة في خلافة علي t وتمتد من زمن البعثة النبوية المباركة وتستغرق معظم سنوات الخلافة الراشدة .
وتشير المصادر التاريخية إلى أن هذه الحقبة شهدت نشاطا لغويا متنوعا كان يستجيب لحاجات تلك المرحلة اللغوية ، ويتمثل بتعليم قراءة القرآن وتدوين المصاحف وتعليم الكتابة ، وتعليم العربية ، ومكافحة اللحن . وكان هذا النشاط ممهدا لما قام به أبو الأسود من تنقيط المصاحف ووضع بعض أبواب النحو .
فالخطوات الأولى في علم العربية بدأت قبل أبي الأسود ، وإن كانت بصورة شفوية غالبا ، وعلى نحو غير منظم في كثير من الأحيان . وسوف نتتبع ذلك النشاط عبر مرحلتين الأولى تمثل عصر النبوة ، والثانية تمثل عصر الخلافة الراشدة ، ثم نتبع ذلك باستخلاص ما يدل على ذلك النشاط في موضوع بدء علم العربية ، وعلاقة ذلك النشاط بجهود أبي الأسود وتلامذته .
أولا : النشاط اللغوي في عصر النبوة :
إن النبوات والرسالات هدفها تعليم الناس ، وقد قال رسول الله r : « إنما بُعثتُ معلِّما » . ولا شك في أن تعليم اللغة ليس جزءا مما يهتم الأنبياء بتعليمه للناس ، ولكن ارتباط دعوة الرسل بلغات أقوامهم كان سببا في نشاط لغوي كبير ، وكانت آثار هذا العامل واضحة على اللغة العربية ، حتى إن علماء اللغة يقررون اليوم أن ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم كان السبب الأول لانتشار اللغة العربية ، وبقائها حية إلى زماننا ، كما كان السبب لنشأة الدراسات حولها ، وقد قال أحدهم : ( لولا القرآن ما كانت عربية ) .
وكانت أول سورة نزلت على رسول الله r من الوحي الإلهي سورة العلق ، وأول كلمة فيها هي : ( اقرأ ) ، وهذا أول خطاب إلهي وُجه إلى النبي r ، وفيه دعوة إلى القراءة والكتابة والعلم ، فكان رسول الله r يقرأ القرآن ويتلوه على الناس ، وكان إذا دخل في الإسلام رجل دفعه إلى الصحابة وقال لهم : « فقهوا أخاكم في دينه ، وأقرئوه وعلموه القرآن » .
وكانت قراءة القرآن من الأمور التي حظيت بالعناية والاهتمام ، فهي أساس الدعوة الجديدة ، وتتمثل تلك العناية بإرسال المعلمين إلى المدن والقرى التي دخلت في الإسلام ، في حياة رسول الله r مثل المدينة التي أرسل إليها مصعب بن عمير ، قبل الهجرة ، فكان يقرئهم القرآن . ومثل بلاد اليمن التي أرسل إليها رسول الله r معاذ بن جبل بعد فتحها يفقه أهلها ويقرئهم القرآن ، ومثل بلاد اليمن التي أرسل إليها رسول الله r بعد دخول أهلها في الإسلام معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري لتعليمهم القرآن والفقه .
وكانت وفود القبائل والمدن العربية تقدم إلى المدينة بعد فتح مكة خاصة تعلن إسلامها وتتفقه في الدين وتتعلم القرآن ، وكان أبي بن كعب أكثر الصحابة اضطلاعا بهذه المهمة في المدينة ، فقد علّم القرآن وفد أهل البحرين ، ووفد بني حنيفة ، ووفد غامد . وقد مدحه النبي r بقوله : ( أقرأ أمتي أبي بن كعب ) رضي الله عنه .
ومن أوجه النشاط اللغوي في زمن النبي r العناية بأمر الكتابة العربية ، فقد كانت قبل الإسلام محدودة الانتشار قليلة الاستعمال ، ولكنها حظيت بعناية رسول الله r واهتمامه . فشجع على تعلمها ، وقرب إليه الكتاب لكتابة القرآن وأمور الدولة الأخرى ، حتى بلغ كتّابه أكثر من أربعين كاتبا . من أشهرهم زيد بن ثابت الأنصاري الذي اشتهر بكتابة الوحي ، ورُوي عنه أنه قال : ( كنت أكتب الوحي عند رسول الله r وهو يملي عليّ ، فإذا فرغت قال : اقرأه ، فأقرؤه ، فإن كان فيه سقَط أقامه ، ثم أخرج به إلى الناس ) . ونص علماء القرآن على أن القرآن كتب كله في زمن النبي r لكنه لم يجمع في مصحف واحد .
وقد تتساءل وتقول : ما علاقة هذا كله بنشأة النحو العربي ؟ وأقول : إن قراءة القرآن وكتابته هما أول عمل لغوي منظم يُعتنى به في تأريخ العربية ، وقد اجتمع عليه العرب على اختلاف مواطنهم ولهجاتهم ، يحرصون على تعلمه وقراءته على نحو ما يتعلمون . وقد أظهرت عملية التعليم الواسعة هذه ملاحظات لغوية تتعلق بالنموذج اللغوي الذي يجب أن يُحتذى ، وهو لغة قريش التي أنزل بها القرآن ، ونقل المؤرخون عن الصحابي أبي الدرداء أن النبي r سمع رجلا قرأ فلحن ، فقال أرشدوا أخاكم . وأن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله r يقول : ( رحم الله امرأ أصلح من لسانه ) . فهذه الملاحظات ، وهي ليس الوحيدة من هذه الحقبة فيما نعتقد ، إلى جانب الحرص الدائم على تعلم القرآن وتعليمه وكتابته قد أوجدت حالة لغوية جديدة ولفتت أنظار الخلفاء الراشدين وعلماء الصحابة فأولوها عناية كبيرة ، حتى صارت عملية التعليم من أهم القضايا التي شغلتهم بعد وفاة النبي علي الصلاة والسلام ، كما سيتضح لك من الفقرة الآتية .
ثانيا : النشاط اللغوي في عصر الخلافة الراشدة :
إن مظاهر النشاط اللغوي في عصر النبوة استمرت في عصر الخلافة الراشدة وازدادت اتساعا وعمقا ، بسبب اتساع الحاجة إليها ، وازدياد حالات القصور في الأداء اللغوي التي يشار إليها في المصادر القديمة بمصطلح ( اللحن ) . ويمكن أن نقسم مظاهر ذلك النشاط على الأقسام الآتية :
1- تعليم القراءة وإرسال المعلمين
سنّ رسول الله r تعليم قراءة القرآن وإرسال المعلمين إلى مكان الحاجة إليهم ، وكان قوله : « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » يذكي روح الحماسة في نفوس المعلمين والمتعلمين . وكان أكبر مجهود قد بُذل في هذا المجال في خلافة عمر بن الخطاب t الذي جعل من ولاة الأمصار معلمين للناس ، فقال في إحدى خطبه : ( اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار أني إنما بعثتهم ليعملوا الناس دينهم وسنة نبيهم ) .
ومما حفظت لنا كتب التاريخ من ذلك أنه بعث إلى الكوفة عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وكتب إليهم : ( إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا ، وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا ) . فكان ابن مسعود يعلم أهل الكوفة قراءة القرآن ، وكذلك أرسل أبا موسى الأشعري إلى البصرة ، فكان يعلمهم القرآن ، وبعث إلى الشام : أن أهل الشام قد كثروا وملؤوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقهم فأعنِّي يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم .
وكوّن هؤلاء المعلمون الأوائل من الصحابة نواة مدارس الإقراء في الأمصار ، وكان لتلامذتهم ومن جاء بعدهم دور واضح في إرساء أسس الدراسات اللغوية العربية ، وعلى رأسها علم النحو .
2- الكتابة العربية
كان الجهد الكبير في تعليم قراءة القرآن يواكبه جهد مماثل في كتابة القرآن ، فبعد أن كتب القرآن مفرقا في زمن النبي r جمع في الصحف في خلافة أبي بكر الصديق t وحُفظت الصحف في دار الخلافة في المدينة المنورة . وكان المسلمون يكتبون المصاحف في الأمصار الإسلامية اعتمادا على قراءة الصحابة النازلين فيهم ، إلى أن تم نسخ المصاحف في خلافة عثمان t نقلا من الصحف ، وتوزيعها على الأمصار .
ولم يقتصر استخدام الكتابة العربية في عصر الخلافة الراشدة على تدوين القرآن في المصاحف ، وإنما كانت تستخدم في مراسلات الخليفة مع ولاة الأمصار وقادة الجيوش ودواوين الدولة وتوزيع العطاء وأمور الناس ومعاملاتهم ، على نحو كان يزداد اتساعا ورسوخا على مرور السنين ، حتى صار لتعليم الكتابة دور خاصة ، مثل ( الكتّاب ) الذي كان يتعلم فيه أبناء المدينة المنورة في عصر الخلافة الراشدة أو بعده بقليل .
إن حركة تعليم الكتابة واستخدامها يقتضيان نوعا من التحليل اللغوي الذي يؤدي إلى التفكير في أصوات اللغة ومقدار تمثيل حروف الكتابة لها ، وهذا يعني التفكير في النظام الذي تقوم عليه اللغة ومحاولة اكتشافه وتوضيحه .
3- مكافحة اللحن
إن بروز اللحن وانتشاره ، ونعني به الخطأ في أداء اللغة على الوجه الصحيح ، كان يقابله جهد للحد منه والقضاء عليه ، وأسهم في ذلك الجهد الخلفاء والعلماء على السواء ، وحفظت المصادر القديمة عددا من الروايات التي تشير إليه وتوضح طرفا منه . فمن ذلك قول أبي بكر الصديق t : ( لأن أقرأ وأُسْقِط أحب إلي من أن أقرأ وألحن ) .
ويروي الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : مر عمر بن الخطاب بقوم قد رموا رِشْقًا ، فقال بئس ما رميتم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا قوم ( متعلمين ) ، فقال عمر : والله لذنبكم في لحنكم أشد عليّ من ذنبكم في رميكم ، سمعت رسول الله r يقول : رحم الله رجلا أصلح من لسانه .
وبلغ التصدي للحن إلى درجة مواجهته بالضرب ، إذ يُروى أن كاتبا لأبي موسى الأشعري كتب : إلى عمر من ( أبو ) موسى ، فكتب إليه عمر : سلام عليك ، أما بعد : فاضرب كاتبك سوطا واحدا ، وأخّر عطاءه سنة . وكان عبد الله بن عمر يضرب أولاده على اللحن ولا يضربهم على الخطأ . وكذلك كان ابن عباس يضرب أولاده على اللحن . وكان علي بن أبي طالب يضرب الحسن الحسين على اللحن .
ولم تقتصر مكافحة اللحن على الخطأ المحض ، بل نجد أن العدول عن الأفصح لقي أيضا مواجهة ، في قراءة القرآن خاصة ، فقد رُوي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عبد الله بن مسعود ، بعد أن أرسله إلى الكوفة لتعليم الناس هناك قراءة القرآن فبلَغه أنه يقرئ بلغة هذيل : ( أما بعد : فإن الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش ، ولا تقرئهم بلغة هذيل ) .
وكل ذلك يقتضي قدرا غير قليل من المعرفة اللغوية التي تميز الخطأ من الصحيح ، وهذه المعرفة وإن كانت شفوية في الراجح ، لكنها تعد أساسا للخطوات اللاحقة في تدوين علم العربية الذي نجد بعض ملامحه قد أخذت تتحدد في عصر الخلافة الراشدة ، على نحو ما سيتضح في الفقرة الآتية .
4- تعليم العربية
إن إنكار اللحن ومكافحته كان يستند أيضا إلى جهد في تعليم النطق الصحيح ، وإن كانت تفاصيل ذلك الجهد غير معروفة اليوم ، لكن الروايات التي نقلتها المصادر تبين أنه كان كبيرا وأنه كان ينبني على معرفة واضحة بخصائص النظام اللغوي للعربية .
فمن الروايات المنقولة عن أبي بن كعب ، وهو من المعلمين الأوائل لقراءة القرآن في المدينة في زمن النبي r أنه قال : ( تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه ) .
وجاء عن عبد الله بن مسعود ، وهو معلم القرآن في الكوفة ، أنه قال : ( أعربوا القرآن فإنه عربي ) .
ونقل عن أبي ذر أنه قال : ( تعلموا العربية في القرآن كما تتعلمون حفظه ) .
وأكبر حملة للتعريب في عصر الخلافة الراشدة جرت في خلافة عمر بن الخطاب t وأعني بالتعريب هنا أمرين : الأول تهذيب النطق العربي من اللحن ، والثاني تعليم غير العربي للغة العربية . ويجد المتتبع لهذا الموضوع في المصادر القديمة صورا متعددة لتلك الحملة ، وهي تكشف عن جوانب مهمة من تاريخ علم العربية لم يتنبه لها الباحثون المحدثون ولم يعتنوا بها .
وأهم أوجه النشاط اللغوي في خلافة عمر ما يأتي :
1- قول عمر : ( تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه ) .
2- قوله : ( تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة ) .
3- أمر عمر بن الخطاب ألا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة .
4- عن أبي عثمان النهدي قال : جاءنا كتاب عمر ، وهم بأذربيجان ، وكان فيه أن تعلموا العربية .
5- كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن مُرْ مَن قِبَلك بتعلم العربية .
6- وسئل الحسن البصري عن تعلم العربية ، أو عن المصحف ينقط بالعربية ، فقال للسائل : أوَما بلغك كتاب عمر بن الخطاب أن تعلموا العربية .
7- وسمع عمر رجلا يتكلم في الطواف بالفارسية ، فأخذ بعضده وقال : ابتغ إلى العربية سبيلا . وعن عطاء قال : رأى عمر بن الخطاب رجلين وهما يتراطنان في الطواف ، فَعَلاهما بالدِّرَّة ، وقال : لا أمَّ لكما ، ابتغيا إلى العربية سبيلا .
8- روى الدارمي عن مُوَرِّق العجلي قال : قال عمر بن الخطاب : تعلموا الفرائض واللحن والسنن كما تعلمون القرآن . قال أبو بكر الأنباري : وحدَّث يزيد بن هارون بهذا الحديث ، فقيل له : ما اللحن ؟ قال : النحو .
إن هذه النصوص ، ومعظمها جاءت في روايات مسندة ، لا يمكن أن يغض الباحث النظر عنها ، ولا بد من محاولة الكشف عن دلالتها في موضوع نشأة النحو وعلم العربية ، وسوف نحاول ذلك ، بعد أن نورد رواية نادرة رواها الصحابي بُرَيْدة بن الحُصَيْب الأسلمي ، وهي توضح ما ورد في النصوص السابقة .
رواية بريد بن الحصيب الأسلمي :
هي من الروايات النادرة الغريبة التي لم يطلع عليها الباحثون في تأريخ النحو العربي ، وكنت قد عثرت عليها أول مرة في كتاب ( التمهيد في معرفة التجويد ) لأبي العلاء العطار ، وقد كان مخطوطا ، ثم في مخطوطة كتاب ( الإيضاح في القراءات ) للأندرابي ، واطلعت عليها أخيرا في كتاب ( الجامع لأخلاق الراوي ) للخطيب البغدادي ، وهو مطبوع . وقد أخرج الرواية مؤلفو الكتب الثلاثة كل بإسناده ، وتلتقي الأسانيد الثلاثة عند محمد بن الفضيل ، ثم تتفق في أسماء السند . وهذا نص الرواية كما رواها الخطيب البغدادي :
( أنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ بأصبهان ، نا محمد بن علي بن حبيش ، حدثنا حبان بن إسحاق البلخي ، نا محمد بن الفضيل ، نا العوام بن حوشب ، نا الخزرج بن أشيم ، عن عبيد الله بن بريدة ، عن أبيه قال :
كانوا يؤمرون ، أو كنا نؤمر ، أن نتعلم القرآن ، ثم السنة ، ثم الفرائض ، ثم العربية : الحروفَ الثلاثة . قال : قلنا وما الحروف الثلاثة ؟ قال الجر والرفع والنصب ) .
ويمكن أن تُدرس هذه الرواية من ثلاث نواح : من ناحية الإسناد ، ومن ناحية المتن ، ومن ناحية تحديد العصر الذي وقع فيه الأمر بالتعلم :
1- ناحية الإسناد :
تلتقي أسانيد المصادر الثلاثة التي أخرجت الرواية عند ( محمد بن الفضيل ) وسنتوقف عنده في تتبع رجال السند ، وهم :
1- بريدة بن الحصيب الأسلمي ، صاحب رسول الله r أسلم عام الهجرة ، وقدم المدينة وسكنها إلى أن مصِّرَت البصرة ، فتحول إليها ، ثم خرج منها غازيا إلى خراسان في خلافة عثمان بن عفان ، فلم يزل بها حتى مات في مَرو في خلافة يزيد بن معاوية ، سنة 62هـ ، وقيل 63هـ .
2- عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي ، قاضي مرو ، ولد لثلاث سنين خلون من خلافة عمر ، وتوفي سنة 115هـ ، من ثقات التابعين ، ووثقه يحيى بن معين ، وأبو حاتم والناس .
3- الخزرج بن أشيم .
4- العوَّام بن حوشب ، قال ابن سعد ، وكان ثقة ، مات سنة 148هـ . ووثقه يحيى بن معين وغيره .
وقد جاء ( أصرم بن حوشب ) مكان ( العوام بن حوشب ) في رواية الأندرابي والعطار . وأصرم هذا متروك الحديث .
5- محمد بن الفضيل ، سماه الأندرابي : محمد بن فضيل العابد . وقد ذكر ابن حبان في كتابه ( الثقات ) : محمد بن الفضيل بن العباس بن الحجاج البلخي العابد وقال : وكان شيخا متقنا .
فرجال الإسناد تغلب عليهم الثقة ، وإذا أزيلت جهالتنا بالخزرج بن أشيم استقام سند الرواية إن شاء الله .
2- ناحية المتن :
قوله : ( كانوا يؤمرون ، أو كنا نؤمر ) : قال الخطيب البغدادي : ( قال أكثر أهل العلم يجب أن يحمل قول الصحابي : ( أمرنا بكذا ) على أنه أمر الله ورسوله . وقال فريق منهم : يجب الوقف في ذلك لأنه لا يؤمَن أن يُعنى بذلك أمر الأئمة والعلماء كما أنه يُعنى بذلك أمر رسول الله r . والقول الأول أولى بالصواب ) .
قوله : ( أن نتعلم القرآن ، ثم السنة ، ثم الفرائض ) : سبق أن ذكرنا الأمر بتعلم القرآن والتفقه في الدين . أما ( الفرائض ) فتحتمل أمرين : الأول : حدود الله التي أمر بها ونهى عنها ، والثاني : المواريث .
أما قوله : ( ثم العربية ) فقد جاءت مفسرة في الرواية .
فمضمون الرواية - إذن - يتفق مع ما جاء في الروايات الأخرى ، وهي لا تختلف في المضمون عن الرواية التي ذكرنا من قبل وقال فيها عمر بن الخطاب t : ( تعلموا الفرائض واللحن والسنن كما تعلمون القرآن ).
3- تحديد العصر الذي وقع فيه الأمر بالتعلم :
إن الأمر بتعلم العربية لم يبرز إلا في خلافة عمر بن الخطاب ، كما يتضح ذلك من مجموعة النصوص التي نقلناها في الفقرة الخاصة بتعليم العربية . ولما كان بريدة بن الحصيب قد أقام بالبصرة طيلة خلافة عمر ، وكان كتاب عمر قد جاء إلى أهل البصرة أن تعلموا العربية ، فإن من المناسب أن يكون الوقت الذي وقع فيه الأمر بتعلم العربية هو في خلافة عمر ، وإن كانت حكاية بريدة له قد وقعت في زمن لاحق ، وفي مكان آخر .
المبحث الثالث
نشأة النحو العربي ودور أبي الأسود الدؤلي فيها - نظرة جديدة
إن النشاط اللغوي المتنوع الذي وقفنا على جوانب منه في المبحث السابق يقتضي من الباحث أن يعيد النظر في أوليه النحو العربي ودور أبي الأسود في ذلك . وهو ما نريد أن نقوم به في هذا المبحث ، بعد أن نحاول تحديد المصطلحات التي تردد ذكرها في النصوص السابقة وهي ( اللحن ، والعربية ، والنحو ) .
أولا : اللحن ، والعربية ، والنحو :
إن تحديد مدلول المصطلحات الثلاثة له علاقة بتحديد بدء الدراسات اللغوية العربية ، لأن هذه المصطلحات هي التي عبّر من خلالها المؤرخون القدماء عن أولية علم العربية ، لكن تحديد مدلولها يجب أن يُراعى فيه المعنى الذي كانت تدل عليه في العصر الذي قيلت فيه النصوص التي وردت فيها هذه المصطلحات ، لا المعاني التي اكتسبتها في الحقب اللاحقة .
1- اللحن :
أثار هذا المصطلح قدرا كبيرا من الجدل بين العلماء المتقدمين والمعاصرين ، والذي يعنينا منه هنا هو ما يحدد دلالته في النصوص التي نقلناها في المبحث السابق . مثل قول عمر بن الخطاب t : ( تعلموا الفرائض واللحن والسنن كما تعلمون القرآن ) ، ومثله قول أبي بن كعب t : ( تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه ) . ولعلماء اللغة العربية الأوائل كلام في توضيح معنى الكلمة في هذه النصوص وفي غيرها يمكن الإفادة منه في هذا المجال .
نقل الأندرابي عن ابن مِقْسَم ( محمد بن الحسن العطار البغدادي ت254هـ ) أنه قال : ( اللحن في كلام العرب :
1- يكون الصواب في الإعراب . 2- ويكون إزالته عن جهته . 3- ويكون التعريض بمعنى لا يظهر في الكلام . 4- ويكون التطريب والتحزين ) .
ونقل ابن منظور عن ابن بَرِّي ( عبد الله بن بري المصري ت582هـ ) أن اللحن ستة معان ، هي : الخطأ في الإعراب ، واللغة ، والغناء ، والفطنة ، والتعريض ، والمعنى أو الفحوي .
وينحصر تفسير العلماء المتقدمين بكلمة ( اللحن ) في النصوص السابقة في معنيين من المعاني المذكورة ، هما : الخطأ في الإعراب ، والصواب في اللغة ، وقد فسّر أبو عبيد القاسم بن سلام الكلمة في قول عمر : تعلموا اللحن والفرائض والسنن كما تعلمون القرآن ، بالخطأ في الكلام . وجعل منه رواية أبي العالية : كنت أطوف مع ابن عباس ، وهو يعلمني لحن الكلام ، وقال : ( إنما سمّاه لحنا لأنه إذا بصّره الصواب فقد بصّره اللحن ) .
وقال أبو بكر الأنباري : ( واللحن حرف من الأضداد ، يقال للخطأ لحن ، وللصواب لحن ) . وقال في معنى الكلمة الواردة في قول أبي بن كعب ( تعلموا اللحن في القرآن ) ، وقول عمر : ( تعلموا اللحن والفرائض ... ) فيجوز أن يكون اللحن الصواب ، ويجوز أن يكون الخطأ ، لأنه إذا عرَف القارئ الخطأ عرف الصواب .
وقال ابن منظور : ( واللحن الذي هو اللغة كقول عمر t : تعلموا الفرائض والسنن واللحن ، كما تعلمون القرآن ، يريد : اللغة ، وجاء في رواية : تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه ، يريد : تعلموا لغة العرب بإعرابها ) .
وكان يزيد بن هارون الواسطي ، وهو أحد أئمة الحديث (ت206هـ) ، قد حدث بحديث عمر : تعلموا الفرائض والسنن واللحن ، فقيل له : ما اللحن ؟ فقال : النحو . وتفسير اللحن بالنحو عند المتقدمين أمر مشتهر حتى إن الرواية المنقولة عن أبي العالية قد رويت هكذا : ( كنت أطوف مع ابن عباس بالبيت وهو يعلمني النحو ) . قال الأزهري : ( واللحن : اللغة والنحو ) . وتفسير ( اللحن ) بالنحو أمر حدث بعد أن تكامل علم النحو واستقرت قواعده ، فيما يظهر ، وهو مبني على أساس أن علم النحو صار يعالج عوارض اللحن في الكلام العربي .
ولا يخرج معنى كلمة ( اللحن ) في النصوص القديمة المذكورة عند أحد أمرين : الخطأ في الكلام ، أو الصواب فيه . وعلى أي منهما حملنا معنى الكلمة فإن ما ورد في الروايات المذكورة يدل على نشاط لغوي منظم يأمر الخلفاء بتعلمه ، ويعمل العلماء عن تعليمه ، فهذا عمر بن الخطاب يقول : تعلموا اللحن ، وهذا عبد الله بن عباس يعلِّم لحن الكلام . وهذا النشاط ، وإن كان يبدو شفويا في جملته ، يمثل النشأة الأولى لعلم النحو العربي والدراسات اللغوية العربية .
2- العربية :
العربية هي لغة العرب . ويمكن أن يكون هذا المعنى هو المقصود في عدد من النصوص التي وردت في المبحث السابق ، مثل قول عمر للرجلين اللذين كانا يتراطنان في الطواف : ابتغيا إلى العربية سبيلا . ولكن الكلمة تحتمل معنى آخر في مثل قول عمر : تعلموا العربية ، وهو يخاطب قوما من العرب ، وتحديد هذا المعنى مفيد في توضيح نشأة النحو العربي .
وجاء في أكثر المصادر القديمة أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من وضع النحو ، وقد مر ذلك في المبحث الأول ، لكن هناك روايات قديمة وردت فيها كلمة ( العربية ) مكان كلمة النحو ، كما جاء في الرواية المنقولة عن عاصم بن أبي النجود (ت128هـ) القارئ المشهور حيث قال : ( أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي ) . ولا يراد بكلمة ( العربية ) في هذا القول وما أشبهه اللغة العربية قطعا ، وإنما يراد بها شيء آخر يتعلق بقواعدها أو خصائصها .
واختلف الباحثون المحدثون في دلالة كلمة ( العربية ) الواردة في قولهم : ( أول من وضع العربية أبو الأسود ) فذهب بعضهم إلى أن المقصود بها نقاط الإعراب التي استخدمها أبو الأسود في تنقيط المصاحف ، قال أحمد أمين : ( فالذي يظهر أنهم يعنون بالعربية هذه العلامات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون ، والتي استعملها أبو الأسود في المصحف ) .
وذهب بعضهم إلى أنها تدل على لغة البوادي ثم صارت تدل على مجموع قواعد اللغة ، فقال محمد خير الحلواني : ( وقد كان الناس يطلقون على لغة البوادي التي صيغ بها الشعر ونزل بها القرآن اسم ( العربية ) ، كما ترى فيما نُقل عن عمر بن الخطاب : ( تعلموا العربية ، فإنها تشبب ( تثبت ) العقل وتزيد المروءة ) ... وبات من السهر أن يكتسب مدلول الكلمة معنى اصطلاحيا يطلق على دراسة ( العربية ) وما تحتويه من ظواهر ... ) .
وإذا كنا نجد في الروايات القديمة ما يؤيد إطلاق كلمة ( العربية ) على نقط المصاحف ، كقول محمد بن سيف الأزدي : ( سألت الحسن عن المصحف ينقط بالعربية ) . وكقول الليث بن سعد (ت165هـ) : ( لا أرى بأسا أن ينقط المصحف بالعربية ) . وإذا كنا نجد في تطور استخدام الكلمة ما يؤيد إطلاقها على دراسة قواعد اللغة العربية ، فيقال مثلا : علماء العربية ، أي علماء قواعد اللغة العربية - فإن التفسير الملائم لكلمة ( العربية ) الواردة في النصوص القديمة التي ترجع إلى العقود الأولى من القرن الأول الهجري هو التفسير الوارد في رواية بريدة بن الحصيب الأسلمي ، وهو ما نحاول توضيحه هنا .
جاء في رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه : ( كانوا يؤمرون ، أو كنا نؤمر ، أن نتعلم القرآن ، ثم السنة ، ثم الفرائض ، ثم العربية : الحروف الثلاثة ، قلنا : وما الحروف الثلاثة ؟ قال : الجر والرفع والنصب ) .
وكنا قد ناقشنا مضمون هذه الرواية ، ونكتفي هنا بالوقوف عند تفسير كلمة ( العربية ) بالحروف الثلاثة . ويبدو أن المراد بالحروف الثلاثة هنا حركات الإعراب ، التي اكتسبت اسم الحركات في وقت متأخر عن زمن الرواية . ويؤيد هذا التفسير ما جاء في آخرها ( الجر والرفع والنصب ) . ويؤيده أيضا قول ابن جني : ( وقد كان متقدمو النحويين يسمون الفتحة الألف الصغيرة ، والكسرة الياء الصغيرة ، والضمة الواو الصغيرة ، وقد كانوا في ذلك على طريق مستقيمة ) وهو قول يمكن أن يستدل به على أنهم كانوا يسمون الحركات حروفا .
أما مصطلحات ( الجر والرفع والنصب ) فإن ورودها في الرواية يثير تساؤلا عن وقت ظهورها واستخدامها ، ويبدو أنها كانت مستخدمة قبل منتصف القرن الأول الهجري . ويؤيد ذلك رواية نقلها الحلبي جاء فيها : ( وكان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي - عليه السلام - لأنه سمع لحنا ، فقال لأبي الأسود أجعل للناس حروفا ، وأشار له إلى الرفع والنصب والجر ) .
إن هذه الروايات كان ينظر إليها بعين الارتياب من قبل الباحثين المحدثين ، ولكني أجد الآن أن بعضها يفسر بعضا ، ويكمل بعضها بعضا . وأجد أن تفسير العربية بالحركات متناسب مع قول العلماء إن أول ما ظهر الاختلال فيه من كلام العرب كان في حركات الإعراب ، وأن هذا التفسير يتلاءم مع السياق الذي وردت فيه الكلمة في الروايات القديمة المنقولة من العقود الأولى للقرن الأول من الهجرة .
فمن ذلك الرواية التي نقلها البخاري - رحمه الله تعالى - حول انتساخ المصاحف ، وجاء فيها أن عثمان بن عفان t قال للصحابة الذين كانوا ينسخون المصاحف : ( إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسانهم ، فإنما نزل بلسانهم ) وجاء في رواية : ( إذا اختلفتم .. في عربية من عربية القرآن ) .
وكذلك ما جاء في ترجمة زر بن حبيش الأسدي تلميذ عبد الله بن مسعود ، عن عاصم بن أبي النجود ، وهو تلميذ زر أنه قال : ( كان زر بن حبيش أعرب الناس ، وكان عبد الله يسأله عن العربية ) .
وكان ابن عباس يعلِّم اللحن في رواية أبي العالية ، وقال عمر بن دينار (ت125هـ) : ( ما رأيت مجلسا قط أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس : للحلال والحرام ، وتفسير القرآن ، والعربية ، والشعر ، والطعام ) ، وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وهو تلميذ ابن عباس : ( كان ابن عباس قد فات الناس بخصال ... وما رأيت أحدا كان أعلم ... بشعر ولا عربية ولا بتفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه ) .
فكلمة ( العربية ) في هذه النصوص يراد بها الإعراب الذي يُستدل عليه بالحركات الثلاث في آخر الكلمات العربية ، ويكون معنى قول عمر : ( تعلموا العربية ) تعلموا الإعراب الذي يقتضي معرفة مواقع الكلمات في الجمل ، لتحديد نوع الحركة التي تنطق في آخر الكلمة ، وسبب التأكيد على الإعراب هو أن الاختلال واللحن ظهر أولا في حركات الإعراب في أواخر الكلمات ، فلفت نظر العلماء وأولي الأمر ، فنبهوا الناس إليه ، وأرشدوهم إلى اجتنابه ، وقد غابت عنا تفصيلات ذلك الجهد المبكر في تأسيس علم العربية ، وبقيت منه هذه اللمحات الدالة عليه .
وإذا صح تفسير كلمة ( العربية ) ، المستعملة في عصر صدر الإسلام ، بحركات الإعراب خاصة ، كما ورد في رواية بريدة ، دلت الروايات التي وردت فيها هذه الكلمة على نشاط لغوي يتصل بتركيب الجملة ، لأن حركات الإعراب تتغير بتغير مواقع الكلمات في الجمل ، وعلى المتكلم ملاحظة ذلك حتى يستقيم كلامه ويكون صحيحا . وقد يكون جانب كبير من هذا النشاط غير مدون . وهو أمر لا يقلل من أهمية هذه الحقبة من تأريخ علم العربية لأن تدوين المعرفة اللغوية التي تراكمت فيها قد تم بعد سنوات قليلة على يد أبي الأسود وتلامذته .
3- النحو :
النحو مصدر الفعل ( نحا ينحو ) بمعنى قصد ، وصار اسما للعلم الذي يُعنى ببيان قواعد اللغة العربية . ويرى بعض الباحثين المحدثين أن هذا المصطلح تأخر ظهوره عن الوقت الذي ظهر فيه مصطلح العربية ، ويرى بعضهم أن أبا الأسود ربما لم يكن يعرف اسم النحو بتاتا ، ويقدِّر آخرون أنه ظهر في عصر الطبقة التي عاش فيها تلامذته .
ومهما يكن الأمر فإن ظهور مصطلح النحو لم يتأخر كثيرا عن الحقبة التي استخدم فيها مصطلح العربية ، ونجده يستخدم مرادفا له فيقال أحيانا : أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي . أو يقال : إن الحسن وابن سيرين كانا يكرهان نقط المصحف بالنحو ، وكذلك كان قتادة يكره أن ينقط المصحف بالنحو . والعبارة المشهورة القديمة هي نقط المصاحف بالعربية .
وكانت كلمة النحو تستخدم مرادفة لكلمة الإعراب ، فقد ورد في لسان العرب : ( النحو : إعراب الكلام العربي ) . وورد فيه : ( والإعراب الذي هو النحو هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ ) . ثم غلب استخدام مصطلح النحو وصار علَما على المباحث المتعلقة بقواعد اللغة العربية سواء كان ذلك من ناحية المفردات أم التركيب . وقد قال ابن جني في تعريف النحو ( هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره ) .
ولعلماء اللغة العربية الأوائل والباحثين المحدثين كلام في تفسير تسمية هذا العلم بالنحو ، فالمتقدمون يربطون بين الدلالة اللغوية والمعنى الاصطلاحي ، يقول الزجاجي في سبب التسمية : إن أبا الأسود ( وضع كتابا فيه جمل العربية وقال لهم : انحوا هذا النحو ، أي اقصدوه ، والنحو : القصد ، فسُمي لذلك نحوا ) . أو أن الإمام عليا t قال لأبي الأسود حين عرض عليه ما وضعه من أبواب النحو : ( ما أحسن هذا النحو الذي قد نحوتَ ، فلذلك سُمِّي النحو ) .
ويذهب الباحثون المحدثون مذهبا قريبا من ذلك حين يربطون بين التسمية ومعنى الكلمة في أصل اللغة ، ويستأنسون بالروايات القديمة التي ورد فيها مثل ( انح هذا النحو) أو ( ما أحسن هذا النحو الذي نحوت ) . وأنكر بعضهم الربط بين التسمية ( هو أن المؤدبين أو المقرئين كانوا يستخدمون كلمة ( نحو ) ليدلوا بها على الطريقة العربية في عبارة ما ، كأن يقول بعضهم لبعض : العرب تنحو في هذا كذا ، أو نحو العرب في هذا كذا ، أو أن يسأل سائل : كيف تنحو العرب في هذا ؟ أو أن يقولوا : فلان ينحو في كلامه نحو العرب ) .
ولا ينبني على هذا الاختلاف في أصل التسمية شيء بما نبحث عنه هنا حول تاريخ بدء البحث اللغوي العربي ، وإذا صح ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن مصطلح النحو ظهر بعد مصطلح العربية ، فإن ذلك يعني أن ظهور هذا المصطلح لا يقدم إضافة جديدة في الموضوع الذي نحن بصدده .
ثانيا : أبو الأسود الدؤلي وعلاقته بنشأة النحو العربي :
إن النشاط اللغوي الذي تتبعنا صوره في المبحث الثاني يمثل بدء الدرس الغوي العربي ، ويمكن أن نلاحظ على ذلك النشاط أنه :
1- كان شفويا في جملته ، فلم يدون في كتاب .
2- كان واسعا شمل النازلين في الأمصار الإسلامية من العرب وغيرهم .
3- كان معظم ذلك النشاط قد تم في خلافة عمر بن الخطاب t ، ويمكن أن نلاحظ هنا ( أن السياسة الواسعة الأفق التي امتاز بها الخليفة الثاني ... قامت بقسط لا يستهان به في سبيل توحيد اللغة ، وإنشاء لسان مشترك بين قبائل البدو جميعا ، كما حفظت العربية من الاضمحلال والانحلال ) .
4- كان معظم ذلك النشاط يدور حول حركات الإعراب الذي يمثل أوضح خاصية في العربية ، والذي كان أول ما اختل من كلام العرب فأحوج إلى التعلم . ورواية بريدة بن الحصيب تشير إلى ذلك .
ونحن إذ نستخلص من مجموع الروايات أن نشأة النحو أو علم العربية تقترن ببدء نزول القرآن وقراءته ، وأن المعرفة اللغوية المنظمة كانت تزداد كلما تقدمت السنين ، فإننا نعُدُّ ما قام به أبو الأسود الدؤلي وتلامذته مرحلة جديدة في تاريخ الدراسات اللغوية العربية انتقلت فيها من مرحلة الرواية الشفهية للمادة اللغوية إلى مرحلة التدوين . ويمكن أن نلخص عمل أبي الأسود الدؤلي في أمرين :
الأول : تدوين الملاحظات التي استخلصها علماء الطبقة الأولى ، وهم الصحابة وقول المؤرخين الأوائل : إن أبا الأسود هو أول من وضع العربية ، أو أول من أسس العربية ، يعني في تقديري أنه أول من دوّن الملاحظات المتعلقة بقواعد اللغة .
والآخر : اختراع علامات الحركات ، وهو المسمَّى نقْط أبي الأسود ، الذي طبَّقه في المصاحف أولا ، فالكتابة العربية كانت تفتقر إلى علامات الحركات ، وما قام به في هذا المجال يُعد إنجازا كبيرا استطاع الخليل بن أحمد أن يتممه بتحويل النقاط إلى علامات الحركات المستعملة في الكتابة العربية إلى زماننا .
وكانت مظاهر اللحن التي ازدادت في عصر أبي الأسود من أهم العوامل التي دفعته إلى العناية بموضوع تدوين الملاحظات اللغوية المتعلقة بحركات الإعراب خاصة التي كانت موضع عناية العلماء وأولي الأمر في عصر الخلافة الراشدة ، كما أن ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t من ملاحظات في هذا المجال يبدو طبيعيا ، إذا تصورنا أن عناية الخلفاء الراشدين كانت مستمرة بهذا الموضوع ، وأن الأحداث التي وقعت في آخر عصر الخلافة الراشدة قد غطت على أخبار النشاط اللغوي الذي لم ينقطع ، وعاد ليواصل مسيرته الصاعدة في أول فرصة هدأت فيها الأمور .
وكان النشاط اللغوي العربي قد بدأ في الحجاز ، خاصة في مدينة رسول الله وكان الخلفاء الراشدون يوجهون ذلك النشاط ، ثم انتقل مركز ذلك النشاط إلى العراق بسبب عاملين ؛ الأول : اهتمام عمر بن الخطاب t بتعليم أهل العراق ، فأرسل علماء الصحابة إلى الكوفة والبصرة ، وكانت رسائله تَرد عليهم وتأمرهم بتعلم العربية وقراءة القرآن بالعربية الفصحى . والثاني : انتقال مركز الخلافة إلى العراق في آخر عصر الخلافة الراشدة ، وظهور طبقة من العلماء من تلامذة الصحابة وعلى رأسهم أبو الأسود الدؤلي ذو المواهب المتعددة الذي وصفه ياقوت بأنه ( أحد سادات التابعين ، والمحدثين ، والفقهاء ، والشعراء ، والفرسان ، والأمراء ، والأشراف ، والدهاة ، والحاضري الجواب ... ) .
وواصل تلامذة أبي الأسود عملهم في تكميل ما دوّنه أستاذهم ، ( وكان ممن أخذ ذلك عنه يحيى بن يَعْمَر ... وأخذ ذلك عنه أيضا ميمون الأقرن ، وعنبسة الفيل ، ونصر بن عاصم الليثي ، وغيرهم ، ثم كان من بعدهم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي ، فكان أول من بَعَجَ النحو ، ومد القياس والعلل ... ) ، ( ثم وصل ما أصّلوه من ذلك التالون لهم ، والآخذون عنهم ، فكان لكل واحد منهم من الفضل بحسب ما بسط من القول ، ومد من القياس ، وفتق من المعاني ، وأوضح من الدلائل وبيّن من العلل ) .
ولا يخفى على القارئ أن القول بأن أبا الأسود هو أول من وضع العربية أو دوّن النحو لا يعني أنه دوّن هذا العلم بكل تفصيلاته ، وإنما وضع أصولا عامة تتعلق بحركات الإعراب ، ومعنى وضعه باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم أنه دوّن ملاحظات تشير إلى حالات الرفع والنصب والجر في آخر الكلمات .
ونقل محمد بن سلام الجمحي قصة تصور للقارئ المقدار الذي أسهم به العلماء الأوائل الذي أسسوا النحو العربي . قال : ( سمعت أبي يسأل يونس عن ابن أبي إسحاق وعلمه ، قال : هو والنحو سواء ، وهو الغاية . قال : فأين علمه من علم الناس اليوم ؟ قال : لو كان في الناس اليوم مَن لا يعلم إلا علمه لضُحك منه ... ) .
ولا يخفى عليك أن ابن أبي إسحاق هذا هو عبد الله الذي كان أول من بعج النحو وسد القياس والعلل ، وهو تلميذ تلامذة أبي الأسود وكانت وفاته سنة 117هـ . ويونس هو ابن حبيب أحد شيوخ سيبويه ، وكانت وفاته سنة 182هـ . وما ورد في هذه القصة يدل على نمو النحو العربي نموا سريعا في القرن الثاني ، وأن بدايات هذا العلم كانت يسيرة ، تناسب النشأة العربية الخالصة لهذا العلم التي بدأت من تعلُم الكتابة وحروف الأبجدية العربية وقراءة القرآن الكريم وتلاوته في عصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة ، ثم تطورت لتركز على الإعراب وضبط حركاته ، وانتهت ببيان كل ما يتعلق بتركيب الكلام العربي .
الخاتمة
إن العناية بأمر اللغة كانت جزءا من التغيير الشامل الذي أحدثه الإسلام في حياة العرب ، فلم يكن لهم درس لغوي منظم قبل الإسلام ، وإنما كانوا يعنون بالفصاحة والبلاغة في هدي من ملكتهم اللغوية التي كانت تسعفهم بها سليقة لغوية أصلية . وأنزل القرآن الكريم بلغتهم فكان أول كتاب مدون تشهده العربية .
وتُعد الجهود التي بذلها المسلمون الأوائل في مجال قراءة القرآن وكتابته بداية للدرس اللغوي العربي ، إذ إن قراءة القرآن وحَّدت الشكل السائد للعربية الفصحى ، وإن كتابته قد نقلت الكتابة العربية إلى مرحلة الاستخدام الواسع التي تبعها تكميل جوانب النقص فيها المتمثلة باختراع علامات الحركات ، ونقاط الإعجام التي ميزت بين الحروف المتشابهة في الصورة .
إن المصادر القديمة تنسب نشأة النحو العربي إلى أبي الأسود الدؤلي (ت69هـ) الذي اخترع نظام الحركات بالنقاط ، بينما تقف أكثر المصادر الحديثة موقف المتشكك من ذلك ، وتكتفي بتأكيد اختراعه لنقاط الحركات التي استخدمها في ضبط المصحف . وما ورد في هذا البحث يؤكد ما جاء في المصادر القديمة ويضيف إليه أمرين :
الأول : أن نشأة النحو العربي ترجع إلى حقبة أقدم من عصر أبي الأسود ، تبدأ بنزول القرآن الكريم ، وتتمثل بالملاحظات التي أبداها العلماء حول مكافحة اللحن وتعلم العربية في عصر الخلافة الراشدة ، خاصة في خلافة عمر بن الخطاب الذي أبدى عناية كبيرة باللغة العربية وتعليمها .
والآخر : أن دور أبي الأسود الدؤلي يتركز في نقطتين : الأولى تدوين الملاحظات اللغوية التي كان يتداولها المهتمون بأمر سلامة اللغة ، ومن ثم قال المؤرخون أول من وضع العربية أبو الأسود ، ونحن نفسر كلمة ( وضع ) بمعنى دوّن . والنقطة الثانية هي نقْط المصحف الذي لم يختلف في نسبته إليه المتقدمون ولا المحدثون .
إن ما ورد في البحث يؤكد النشأة العربية الخالصة لعلم النحو العربي ، ويوضح المرحلة الأولى من تاريخ هذا العلم التي وصفها كثير من الباحثين بالغموض الذي نقدِّر أن كثيرا منه قد تبدد بما ورد في هذا البحث ، إن شاء الله تعالى .
إن موقف المؤرخين المحدثين لا يخلو من قصور في النظر وتعجل في استخلاص النتائج ، وعلى الباحث المدقق ألا يصده هذا الموقف عن تفحص الوثائق التأريخية والنصوص اللغوية المتعلقة بالموضوع ، وتقويمها من وجهة النظر العلمية المحضة ، واستخلاص ما يمكن أن تدل عليه بشأن هذه القضية .
والذي حملني على إعادة دراسة الموضوع هو وقوفي على روايات لم يطلع عليها المؤرخون المحدثون للنحو العربي ولم يشيروا إليها ، وهي وما يمكن أن يضاف إليها تقدم تصورا جديدا لنشأة النحو العربي ، كما أن الروايات الأخرى التي بأيدي الباحثين يمكن أن تفهم على نحو جديد أيضا .
إنني في هذا البحث لن أتجاوز الحقبة التي عاش فيها أبو الأسود ، ولن أتتبع تطور الدرس النحوي العربي بعد أبي الأسود وتلامذته ، لأن ما كتب عن تأريخ النحو بعد أبي الأسود شيء كثير يكفي في إعطاء صورة واضحة عنه ، لكن نشأة النحو وبداياته لا يزال الباحثون يشيرون إلى غموضها والاختلاف فيها ، ومن ثم فإن هذا البحث يسعى إلى تبديد الغموض وإعطاء تصور واضح عن بدء النشاط اللغوي العربي المنظم ونشأة النحو العربي ودور أبي الأسود في تلك النشأة ، وأرجو أن يحقق البحث ذلك أو بعضه ، والله تعالى الموفق للصواب ، وإليه المرجع والمآب .
المبحث الأول
نشأة النحو العربي في الدراسات القديمة والمعاصرة
أدرك مؤرخو النحو العربي الأوائل أن نشأة النحو مرتبطة بظهور النموذج اللغوي الموحد الذي يحرص المتكلمون على احتذائه ، وبروز ظاهرة الإخفاق في تحقيق ذلك النموذج أحيانا ، وهو ما يطلق عليه مصطلح ( اللحن ) ، وقد تهيأ هذا الظرف بعد نزول القرآن وانتشار الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية ، يقول أبو الطيب الحلبي (ت351هـ) : « واعلم أن أول ما اختل من كلام العرب فأحوج إلى التعلم الإعرابُ ، لأن اللحن ظهر في كلام الموالي والمتعربين من عهد النبي » .
وعبر أبو بكر الزبيدي (ت379هـ) عن هذه الحقيقة على نحو أكثر تفصيلا حيث قال : « ولم تزل العرب تنطق على سجيتها في صدر إسلامها وماضي جاهليتها حتى أظهر الله الإسلام على سائر الأديان ، فدخل الناس فيه أفواجا ، وأقبلوا إليه أرسالا ، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة ، واللغات المختلفة ، ففشا الفساد في اللغة العربية ، واستبان منه في الإعراب الذي هو حَلْيُها ، والموضح لمعانيها ، فتفطن لذلك من نافر بطباعه سوء أفهام الناطقين من دخلاء الأمم بغير المتعارف من كلام العرب ، فعظم الإشفاق من فُشُوِّ ذلك وغلبته ، حتى دعاهم الحذر من ذهاب لغتهم وفساد كلامهم إلى أن سببوا الأسباب في تقييدها لمن ضاعت عليه ، وتثقفيها لمن زاغت عنه » .
ويؤيد الباحثون المحدثون مؤرخي النحو العربي الأوائل في ذلك ، فيقول الأستاذ سعيد الأفغاني : « يعتبر اللحن الباعث الأول على تدوين اللغة وجمعها ، وعلى استنباط قواعد النحو وتصنيفها ، فقد كانت حوادثه المتتابعة نذير الخطر الذي هب على صوته أولو الغيرة على العربية والإسلام » .
ومع اتفاق الباحثين على سبب نشأة النحو العربي نجدهم مختلفين في تحديد البادئ بوضع أسسه ، وفي تحديد طبيعة الملاحظات الأولى التي عدت اللبنة الأولى في بنيانه الشامخ ، ويمكن أن نعرض وجهات نظرهم بتقسيمها على قسمين : الأول يمثل رأي العلماء الأوائل ، والثاني يمثل رأي الباحثين المحدثين ، وإليك ملخص ما قالوه في هذا الموضوع .
أولا : رأي العلماء الأوائل في نشأة النحو العربي :
قال السيرافي : « اختلف الناس في أوائل من رسم النحو ، فقال قائلون : أبو الأسود الدؤلي . وقال آخرون : نصر بن عاصم الدؤلي ، ويقال الليثي ، وقال آخرون : عبد الرحمن بن هرمز . وأكثر الناس على أبي الأسود الدؤلي » .
إن ما ورد في المصادر القديمة يؤكد ما ذكره السيرافي من أن أكثر الناس يذهبون إلى أن أبا الأسود هو أول من رسم النحو . وأقدم ما اطلعت عليه من النصوص التي تنسب ذلك إليه ما رواه الحلبي عن أبي حاتم أن قتادة بن دِعامة (ت117هـ) محدث البصرة ، قال : « أول من وضع النحو بعد أبي الأسود يحيى بن يعمر » . وهو قول يقرر سبْق أبي الأسود في وضع النحو . وقتادة من طبقة تلامذة أبي الأسود ، وهو يعرفه ونقل عنه بعض الأخبار .
ومن الروايات القديمة التي تنسب وضع النحو إلى أبي الأسود ما نقله السيرافي والزبيدي عن عاصم بن أبي النجود (ت128هـ) قارئ أهل الكوفة المشهور ، أنه قال : « أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي » . وكان عاصم ، وهو من طبقة تلامذة الدؤلي ، مشهورا بالفصاحة ، وقال عنه تلميذه أبو بكر بن عياش : « كان عاصم نحويا فصيحا » .
وقال محمد بن سلام الجمحي (ت231هـ) : « وكان لأهل البصرة في العربية قُدْمَة ، وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية . وكان أول من أسس العربية وفتح بابها ، وأنهج سبيلها ، ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي ، وهو ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل ، وكان رجل أهل البصرة ... وإنما قال ذلك حين اضطرب كلام العرب فغُلبت السليقة ، فكان سراة الناس يلحنون ، فوضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم ... وكان ممن أخذ ذلك عنه يحيى بن يعمر ... وأخذ ذلك عنه أيضا ميمون الأقرن ، وعنبسة الفيل ، ونصر بن عاصم الليثي ، وغيرهم » .
وهذا رأي عامة المؤرخين الأوائل للنحو العربي ، مثل الحلبي ، والزبيدي ، وابن النديم ، « فأما زعْم من زعَم أن أول من وضع النحو عبد الرحمن بن هرمز بن الأعرج ، أو نصر بن عاصم ، فليس بصحيح ، لأن عبد الرحمن أخذ عن أبي الأسود ، وكذلك أيضا نصر بن عاصم أخذ عن أبي الأسود » .
وجاء في رواية قديمة نقلها الزبيدي عن المبرد (ت282هـ) قال : « سئل أبو الأسود الدؤلي عمن فتح له الطريق إلى الوضع في النحو وأرشده إليه ؟ فقال : تلقيته من علي بن أبي طالب ، رحمه الله ، وفي حديث آخر قال : ألقى إليّ عليّ أصولا احتذيت عليها » . ومن ثم فإن بعض المؤرخين قال : إن أول من وضع النحو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لأنه هو الذي وجّه أبا الأسود وأرشده إليه .
وقد اختلف الناس في السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو ، وإن كانت الروايات جميعا تشير إلى وقوع اللحن من أناس كثيرين ، فبعض الروايات يشير إلى أن أعرابيا أخطأ في قراءة قوله تعالى : ( أن الله بريء من المشركين ورسولُه ) [التوبة:3] ، ومنها ما يشير إلى لحن بعض العرب عند زياد والي العراق ، أو لحن رجل فارسي سمعه أبو الأسود في البصرة ، أو لحن ابنة أبي الأسود ، أو نحو ذلك ، مما جعل أبا الأسود نفسه أو بطلب من عمر بن الخطاب ، أو علي بن أبي طالب ، أو زياد والي العراق ، يعمل شيئا يُصلح الناسُ به كلامهم ، وكذلك نقّط المصاحف فجعل الفتحة نقطة فوق الحرف ، والكسرة نقطة تحت الحرف ، والضمة نقطة أمام الحرف ، وجعل التنوين نقطتين ، بلون يخالف لون المداد .
أما مقدار ما وضعه أبو الأسود من أبواب النحو فإن المصادر القديمة تشير إلى ضآلة ما رسمه . قال الحلبي : « فوضع شيئا جليلا ، حتى تعمق النظر بعد ذلك وطوّلوا الأبواب » . ويمكن أن نعرض ما ذكرته المصادر حول هذا الموضوع في النقاط الآتية :
1- وضع باب الفاعل والمفعول ، ولم يزد عليه . وينقل ابن النديم في كتابه «الفهرست» أنه رأى أربع ورقات قديمة ترجمتها : «هذه فيها كلام في الفاعل والمفعول من أبي الأسود ، رحمة الله عليه ، بخط يحيى بن يعمر ... » .
2- وضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم .
3- جاء في بعض المصادر المتأخرة أن الإمام علي بن أبي طالب t ألقى إلى أبي الأسود صحيفة أو رقعة فيها : الكلام كله اسم وفعل وحرف ، فالاسم ما أنبأ عن المسمى ، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى ، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل .. واعلم أن الأشياء ثلاثة : ظاهر ، ومضمر ، وشيء ليس بظاهر ولا مضمر ، وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر ... إلخ » .
وفي هذه الرواية من التفصيل والمصطلحات ما لا يتناسب وذلك العصر ، مما حدا ببعض الباحثين المحدثين إلى التشكك في صحتها ، ووصمها بأنها حديث خرافة . ولا أحد ينكر الصلة الوثيقة بين الإمام علي وأبي الأسود وما يمكن أن يجري بينهما من حديث عن اللحن وقضايا اللغة ، لكن خلو المصادر القديمة من هذه الرواية ، وطبيعة أسلوبها ، يبعث الشك في أصالتها .
كان أول من أصّل النحو - إذن - وأعمل فكره فيه أبو الأسود الدؤلي ، ثم نصر بن عاصم ، وعبد الرحمن بن هرمز ، فوضعوا للنحو أبوابا ، وأصّلوا له أصولا ، وكان لأبي الأسود في ذلك فضل السبق وشرف التقدم ، ثم وصل ما أصّلوه من ذلك التالون لهم ، والآخذون عنهم ، فكان لكل واحد منهم من الفضل بحسب ما بسط من القول ، ومد من القياس ، وفتق من المعاني ، وأوضح من الدلائل ، وبين من العلل .
ثانيا : رأي الباحثين المحدثين في نشأة النحو العربي :
ذهب عدد من الباحثين المحدثين إلى غموض نشأة النحو العربي ، فقال بروكلمان : « يبدو أن أوائل علم اللغة العربية ستبقى دائما محوطة بالغموض والظلام » وهو يعُد ما ينسب إلى أبي الأسود وتلامذته من قبيل الأساطير . ويقول أحمد أمين : « وتاريخ النحو في منشئه غامض كل الغموض ، فإنا نرى فجأة كتابا ضخما ناضجا هو كتاب سيبويه ، ولا نرى قبله ما يصح أن يكون نواة تبين ما هو سنة طبيعية من نشوء وارتقاء ، وكل ما ذكروه من هذا القبيل لا يشفي غليلا » . ويقول حسن عون : « لا يزال الباحث في حيرة من أمر النحو العربي ، ومن الظروف التي لابست نشأته ... » .
وذهب الأستاذ إبراهيم مصطفى إلى أن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت117هـ) تلميذ أبي الأسود الدؤلي هو أول من وضع أسس القواعد النحوية ، وأن أبا الأسود اقتصر على نقط المصاحف ، وحجته في ذلك قوله « إننا لم نجد في كتاب سيبويه ولا فيما بعده من الكتب رأيا نويا نُسب إلى أبي الأسود ولا إلى طبقتين من بعده ، فنحن أمام حقيقة واضحة أُخذت من كتب النحو ، وهي أن أقدم من يُنسب إليه رأي نحوي هو عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي » .
ويذهب أكثر الباحثين المحدثين إلى أن الأسود الدؤلي هو الذي أرسى اللبنة الأولى في تاريخ النحو العربي ، إلا أن معظمهم يفسر تلك اللبنة بتنقيط المصحف بنقاط الإعراب . يقول الأستاذ أحمد أمين : « ويظهر لي أن نسبة النحو إلى أبي الأسود لها أساس صحيح ، وذلك أن الرواة يكادون يتفقون على أن أبا الأسود قام بعمل من هذا النمط . وهو أنه ابتكر شكل المصحف » . ويقول حسن عون : « إن اللبنة الأولى التي أرساها أبو الأسود الدؤلي في بناء النحو العربي كانت شكله القرآن عن طريق النقط » .
وقال الدكتور شوقي ضيف وهو يعلق على الروايات التي تنسب وضع النحو إلى أبي الأسود وتوضح الأسباب التي دفعته إلى وضعه : « وكل ذلك من عبث الرواة الوضاعين المتزيدين ، وهو عبث جاء من أن أبا الأسود نُسب إليه حقا أنه وضع العربية ، فظن بعض الرواة أنه وضع النحو ، وهو إنما وضع أول نقْط يحرر حركات أواخر الكلمات في القرآن الكريم » .
وقال الدكتور عفيف دمشقية : « الحقيقة العلمية الوحيدة التي يمكن الركون إليها في المرحلة الأولى لنشأة النحو العربي ، حقيقة كون الدؤلي واضع نقط الإعراب الذي اعتبر على أساسه الواضع الأول للنحو » .
وقال الدكتور عبد الحميد السيد طلب : « أما ما يصدقه العقل والمنطق مما نسب إلى أبي الأسود الدؤلي فهو أنه رأى نقط المصاحف بعلامة مميزة للفاعل والمفعول والمجرور تمييزا عمليا » .
وظهر من بين الباحثين المعاصرين من أكد على أن أبا الأسود الدؤلي هو مؤسس النحو العربي إضافة إلى نقطه المصحف ، فيقول الأستاذ سعيد الأفغاني : إن من يقرأ ترجمة أبي الأسود وما ورد في أكثر المصادر القديمة من أنه أول من وضع العربية ونقط المصاحف ، وأن له تلامذة أخذوا عنه العربية وقراءة القرآن في البصرة ، كل أولئك مع ما عرف عن أبي الأسود من ذكاء وقّاد ، وفكر متحرك ، وعقل وروية ، يجعلنا نقطع بأنه وضع أساسا بنى عليه مَن بعده ، ولكن ما هو هذا الأساس ؟ لسنا نجد لهذا السؤال جوابا يشفي الغليل .
ولعل أكثر الباحثين المحدثين تدقيقا في نشأة النحو العربي ودور أبي الأسود في وضع أسسه هو الدكتور عبد الرحمن السيد ، في كتابه ( مدرسة البصرة النحوية ) ، الذي عرض الروايات القديمة ثم أكد أن اختلاف الروايات ليس دليلا على كذبها ثم يقول : « الحق أن النفس تميل إلى تعدد الأسباب والأخطاء ، وأن هذا التعدد في الخطأ والتنوع فيه هو الذي حفز الهمة ، وقوّى الرغبة في محاولة التخلص منه ، ومن هنا وُضع أساس هذا العلم » .
وهو يؤكد أن أبا الأسود هو مؤسس هذا العلم وواضع أول حجر في صرحه ، وهو لا يعني أنه وضع علما كاملا ناضجا وإنما يقصد « أنه فكر في وضع قواعد عامة يمكن أن تحفظ على اللغة سلامتها ... » . ثم يقول : إن الأبواب النحوية التي تنسب المصادر القديمة إلى أبي الأسود وضعها تتعلق بمناسبات خاصة وردت في الروايات القديمة ، ولا بد أنه عرضها عرضا ميسرا مفهوما يناسب حاجة أهل زمانه .
وهو يربط بين نقط المصاحف واستخلاص القواعد النحوية لأنه في رأيه « لا يستطيع أحد أن يدعي أن عالما مشهودا له بالتقدم ... ينقِّط المصحف كلمة كلمة ، ويلاحظ حركات حروفه حرفا حرفا ، ويفعل ذلك في دقة وبراعة ، ثم يخرج من عمله هذا دون أن تتكون لديه فكرة أولية عن عمل بعض الأدوات ، أو عن حركة بعض الكلمات ذات الوظيفة المتشابهة والوضع المتحد ، اللهم إن أن يكون راسخ القدم في الغباء ، بعيدا عن صفات أبي الأسود بُعد الأرض عن السماء » .
وما ورد في بعض المصادر القديمة يؤيد وجهة النظر هذه ، فقد نقل أبو بكر الأنباري الرواية الخاصة بنقط المصاحف ، وجاء في آخرها « فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره ، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك » . ويقول ابن قتيبة إن أبا الأسود يُعد من النحويين « لأنه أول من عمل في النحو كتابا » . ولا يتيسر الآن القطع بأن كتاب أبي الأسود في النحو هو تلك الورقات الأربع التي اطلع عليها ابن النديم بخط يحيى بن يعمر ، التي ذهب خبرها منذ عصر ابن النديم .
وبلغت جهود الباحثين المحدثين ذروتها بظهور كتابين يبحثان في نشأة النحو العربية وتطوره حتى عصر سيبويه ، وهما :
الكتاب الأول : الحلقة المفقودة في تاريخ النحو العربي ، تأليف الدكتور عبد العال سالم مكرم ، الذي يقول في مقدمته : « وقد شعرت منذ أن اشتغلت بالنحو العربي بأن هناك مرحلة مفقودة في تاريخ النحو العربي تمتد من عصر أبي الأسود إلى عصر الخليل وسيبويه » . وقد تكفل الكتاب ببيان تاريخ النحو وتطوره في هذه المرحلة .
ويرى المؤلف « أن قضية نشأة النحو مرتبطة بالمعارف السابقة للعرب في الجاهلية وفي العصر الإسلامي ، وبخاصة في مجالي القراءة والكتابة » . وهو يرى لذلك « أن أبا الأسود حلقة في سلسلة المعرفة اللغوية ... ولكنه برز في مجالها ، وزاد نشاطه في حقلها فنسبت إليه نشأة أضخم علم شغل الناس قرونا طويلة وما زال يشغلهم إلى وقتنا الحاضر » .
الكتاب الثاني : المفصَّل في تاريخ النحو العربي ( الجزء الأول : قبل سيبويه ) تأليف الدكتور محمد خير الحلواني ، الذي يقول في مقدمته : « وقد عُنيت في هذا الجزء بالكشف عن نمو النحو في المرحلة الغامضة مرحلة أبي الأسود وتلامذته ، وهي مرحلة وقف حيالها الباحثون في الشرق والغرب شاكين حائرين ، ونعتوها بأنها مرحلة مظلمة في تاريخ النحو العربي لا يمكن أن يبلغها البحث العلمي » .
ويقول مؤلف الكتاب : « والحق أن نشأة النحو ترتبط بجذور الحياة الإسلامية في ذلك الزمن ، وترتد إلى ما ترتد إليه نشأة العلوم الأخرى من لغوية ودينية وفلسفية ، وكان القرآن الكريم محور هذه الجذور ، وهو الركيزة الأساسية فيها ، وإذن فإن نشأة العربية - بمعناها الاصطلاحي - انطلقت من قراءة القرآن » . وهو يقرر أن أبا الأسود الدؤلي نقط المصحف ، ووضع أسس النحو العربي لكنه ينفي أن يكون قد ألف كتابا في النحو ، بل كان يعلِّم النحو .
***
إن نسبة وضع أسس النحو العربي إلى أبي الأسود الدؤلي تبدو طبيعية في ظل الظروف اللغوية التي أعقبت الفتوح الإسلامية ، والتي تتمثل بانتشار اللغة العربية بين الأمم التي دخلت في الدين ، وتتمثل أيضا بامتزاج العرب الخُلَّص بأهل اللغات الأخرى ، ولما كانت العربية لغة القرآن ولسان الدين فإن المحافظة عليها وتيسير تعلمها كان من الأعمال التي يحرص عليها الخلفاء والولاة والعلماء ، وهو أمر انتهى بتدوين قواعد اللغة العربية على يد أبي الأسود الدؤلي لأول مرة ، بعد مرحلة من الملاحظات الشفهية كان المهتمون بأمر سلامة اللغة يتداولونها .
إن هناك معارف لغوية تسبق جهود أبي الأسود الدؤلي ، كما يبدو من عدد من الروايات والوقائع ، وإن أبا الأسود حين نقّط المصحف ووضع بعض أبواب النحو كان يستخدم تلك المعارف اللغوية ويعمل على تعميقها وتوسيعها . وهذه القضية هي ما نحاول الكشف عنه في المبحث الثاني ، إن شاء الله تعالى .
المبحث الثاني
النشاط اللغوي قبل أبي الأسود الدؤلي
نعني بالنشاط اللغوي هنا الملاحظات والأقوال التي صدرت من عدد من أولي الأمر والعلماء وهي تهدف إلى تصحيح خطأ لغوي أو إلى ترسيخ صورة النطق الفصيح ، في الحقبة التي سبقت ظهور أبي الأسود في البصرة في خلافة علي t وتمتد من زمن البعثة النبوية المباركة وتستغرق معظم سنوات الخلافة الراشدة .
وتشير المصادر التاريخية إلى أن هذه الحقبة شهدت نشاطا لغويا متنوعا كان يستجيب لحاجات تلك المرحلة اللغوية ، ويتمثل بتعليم قراءة القرآن وتدوين المصاحف وتعليم الكتابة ، وتعليم العربية ، ومكافحة اللحن . وكان هذا النشاط ممهدا لما قام به أبو الأسود من تنقيط المصاحف ووضع بعض أبواب النحو .
فالخطوات الأولى في علم العربية بدأت قبل أبي الأسود ، وإن كانت بصورة شفوية غالبا ، وعلى نحو غير منظم في كثير من الأحيان . وسوف نتتبع ذلك النشاط عبر مرحلتين الأولى تمثل عصر النبوة ، والثانية تمثل عصر الخلافة الراشدة ، ثم نتبع ذلك باستخلاص ما يدل على ذلك النشاط في موضوع بدء علم العربية ، وعلاقة ذلك النشاط بجهود أبي الأسود وتلامذته .
أولا : النشاط اللغوي في عصر النبوة :
إن النبوات والرسالات هدفها تعليم الناس ، وقد قال رسول الله r : « إنما بُعثتُ معلِّما » . ولا شك في أن تعليم اللغة ليس جزءا مما يهتم الأنبياء بتعليمه للناس ، ولكن ارتباط دعوة الرسل بلغات أقوامهم كان سببا في نشاط لغوي كبير ، وكانت آثار هذا العامل واضحة على اللغة العربية ، حتى إن علماء اللغة يقررون اليوم أن ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم كان السبب الأول لانتشار اللغة العربية ، وبقائها حية إلى زماننا ، كما كان السبب لنشأة الدراسات حولها ، وقد قال أحدهم : ( لولا القرآن ما كانت عربية ) .
وكانت أول سورة نزلت على رسول الله r من الوحي الإلهي سورة العلق ، وأول كلمة فيها هي : ( اقرأ ) ، وهذا أول خطاب إلهي وُجه إلى النبي r ، وفيه دعوة إلى القراءة والكتابة والعلم ، فكان رسول الله r يقرأ القرآن ويتلوه على الناس ، وكان إذا دخل في الإسلام رجل دفعه إلى الصحابة وقال لهم : « فقهوا أخاكم في دينه ، وأقرئوه وعلموه القرآن » .
وكانت قراءة القرآن من الأمور التي حظيت بالعناية والاهتمام ، فهي أساس الدعوة الجديدة ، وتتمثل تلك العناية بإرسال المعلمين إلى المدن والقرى التي دخلت في الإسلام ، في حياة رسول الله r مثل المدينة التي أرسل إليها مصعب بن عمير ، قبل الهجرة ، فكان يقرئهم القرآن . ومثل بلاد اليمن التي أرسل إليها رسول الله r معاذ بن جبل بعد فتحها يفقه أهلها ويقرئهم القرآن ، ومثل بلاد اليمن التي أرسل إليها رسول الله r بعد دخول أهلها في الإسلام معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري لتعليمهم القرآن والفقه .
وكانت وفود القبائل والمدن العربية تقدم إلى المدينة بعد فتح مكة خاصة تعلن إسلامها وتتفقه في الدين وتتعلم القرآن ، وكان أبي بن كعب أكثر الصحابة اضطلاعا بهذه المهمة في المدينة ، فقد علّم القرآن وفد أهل البحرين ، ووفد بني حنيفة ، ووفد غامد . وقد مدحه النبي r بقوله : ( أقرأ أمتي أبي بن كعب ) رضي الله عنه .
ومن أوجه النشاط اللغوي في زمن النبي r العناية بأمر الكتابة العربية ، فقد كانت قبل الإسلام محدودة الانتشار قليلة الاستعمال ، ولكنها حظيت بعناية رسول الله r واهتمامه . فشجع على تعلمها ، وقرب إليه الكتاب لكتابة القرآن وأمور الدولة الأخرى ، حتى بلغ كتّابه أكثر من أربعين كاتبا . من أشهرهم زيد بن ثابت الأنصاري الذي اشتهر بكتابة الوحي ، ورُوي عنه أنه قال : ( كنت أكتب الوحي عند رسول الله r وهو يملي عليّ ، فإذا فرغت قال : اقرأه ، فأقرؤه ، فإن كان فيه سقَط أقامه ، ثم أخرج به إلى الناس ) . ونص علماء القرآن على أن القرآن كتب كله في زمن النبي r لكنه لم يجمع في مصحف واحد .
وقد تتساءل وتقول : ما علاقة هذا كله بنشأة النحو العربي ؟ وأقول : إن قراءة القرآن وكتابته هما أول عمل لغوي منظم يُعتنى به في تأريخ العربية ، وقد اجتمع عليه العرب على اختلاف مواطنهم ولهجاتهم ، يحرصون على تعلمه وقراءته على نحو ما يتعلمون . وقد أظهرت عملية التعليم الواسعة هذه ملاحظات لغوية تتعلق بالنموذج اللغوي الذي يجب أن يُحتذى ، وهو لغة قريش التي أنزل بها القرآن ، ونقل المؤرخون عن الصحابي أبي الدرداء أن النبي r سمع رجلا قرأ فلحن ، فقال أرشدوا أخاكم . وأن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله r يقول : ( رحم الله امرأ أصلح من لسانه ) . فهذه الملاحظات ، وهي ليس الوحيدة من هذه الحقبة فيما نعتقد ، إلى جانب الحرص الدائم على تعلم القرآن وتعليمه وكتابته قد أوجدت حالة لغوية جديدة ولفتت أنظار الخلفاء الراشدين وعلماء الصحابة فأولوها عناية كبيرة ، حتى صارت عملية التعليم من أهم القضايا التي شغلتهم بعد وفاة النبي علي الصلاة والسلام ، كما سيتضح لك من الفقرة الآتية .
ثانيا : النشاط اللغوي في عصر الخلافة الراشدة :
إن مظاهر النشاط اللغوي في عصر النبوة استمرت في عصر الخلافة الراشدة وازدادت اتساعا وعمقا ، بسبب اتساع الحاجة إليها ، وازدياد حالات القصور في الأداء اللغوي التي يشار إليها في المصادر القديمة بمصطلح ( اللحن ) . ويمكن أن نقسم مظاهر ذلك النشاط على الأقسام الآتية :
1- تعليم القراءة وإرسال المعلمين
سنّ رسول الله r تعليم قراءة القرآن وإرسال المعلمين إلى مكان الحاجة إليهم ، وكان قوله : « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » يذكي روح الحماسة في نفوس المعلمين والمتعلمين . وكان أكبر مجهود قد بُذل في هذا المجال في خلافة عمر بن الخطاب t الذي جعل من ولاة الأمصار معلمين للناس ، فقال في إحدى خطبه : ( اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار أني إنما بعثتهم ليعملوا الناس دينهم وسنة نبيهم ) .
ومما حفظت لنا كتب التاريخ من ذلك أنه بعث إلى الكوفة عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وكتب إليهم : ( إني قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا ، وعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا ) . فكان ابن مسعود يعلم أهل الكوفة قراءة القرآن ، وكذلك أرسل أبا موسى الأشعري إلى البصرة ، فكان يعلمهم القرآن ، وبعث إلى الشام : أن أهل الشام قد كثروا وملؤوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقهم فأعنِّي يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم .
وكوّن هؤلاء المعلمون الأوائل من الصحابة نواة مدارس الإقراء في الأمصار ، وكان لتلامذتهم ومن جاء بعدهم دور واضح في إرساء أسس الدراسات اللغوية العربية ، وعلى رأسها علم النحو .
2- الكتابة العربية
كان الجهد الكبير في تعليم قراءة القرآن يواكبه جهد مماثل في كتابة القرآن ، فبعد أن كتب القرآن مفرقا في زمن النبي r جمع في الصحف في خلافة أبي بكر الصديق t وحُفظت الصحف في دار الخلافة في المدينة المنورة . وكان المسلمون يكتبون المصاحف في الأمصار الإسلامية اعتمادا على قراءة الصحابة النازلين فيهم ، إلى أن تم نسخ المصاحف في خلافة عثمان t نقلا من الصحف ، وتوزيعها على الأمصار .
ولم يقتصر استخدام الكتابة العربية في عصر الخلافة الراشدة على تدوين القرآن في المصاحف ، وإنما كانت تستخدم في مراسلات الخليفة مع ولاة الأمصار وقادة الجيوش ودواوين الدولة وتوزيع العطاء وأمور الناس ومعاملاتهم ، على نحو كان يزداد اتساعا ورسوخا على مرور السنين ، حتى صار لتعليم الكتابة دور خاصة ، مثل ( الكتّاب ) الذي كان يتعلم فيه أبناء المدينة المنورة في عصر الخلافة الراشدة أو بعده بقليل .
إن حركة تعليم الكتابة واستخدامها يقتضيان نوعا من التحليل اللغوي الذي يؤدي إلى التفكير في أصوات اللغة ومقدار تمثيل حروف الكتابة لها ، وهذا يعني التفكير في النظام الذي تقوم عليه اللغة ومحاولة اكتشافه وتوضيحه .
3- مكافحة اللحن
إن بروز اللحن وانتشاره ، ونعني به الخطأ في أداء اللغة على الوجه الصحيح ، كان يقابله جهد للحد منه والقضاء عليه ، وأسهم في ذلك الجهد الخلفاء والعلماء على السواء ، وحفظت المصادر القديمة عددا من الروايات التي تشير إليه وتوضح طرفا منه . فمن ذلك قول أبي بكر الصديق t : ( لأن أقرأ وأُسْقِط أحب إلي من أن أقرأ وألحن ) .
ويروي الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه قال : مر عمر بن الخطاب بقوم قد رموا رِشْقًا ، فقال بئس ما رميتم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا قوم ( متعلمين ) ، فقال عمر : والله لذنبكم في لحنكم أشد عليّ من ذنبكم في رميكم ، سمعت رسول الله r يقول : رحم الله رجلا أصلح من لسانه .
وبلغ التصدي للحن إلى درجة مواجهته بالضرب ، إذ يُروى أن كاتبا لأبي موسى الأشعري كتب : إلى عمر من ( أبو ) موسى ، فكتب إليه عمر : سلام عليك ، أما بعد : فاضرب كاتبك سوطا واحدا ، وأخّر عطاءه سنة . وكان عبد الله بن عمر يضرب أولاده على اللحن ولا يضربهم على الخطأ . وكذلك كان ابن عباس يضرب أولاده على اللحن . وكان علي بن أبي طالب يضرب الحسن الحسين على اللحن .
ولم تقتصر مكافحة اللحن على الخطأ المحض ، بل نجد أن العدول عن الأفصح لقي أيضا مواجهة ، في قراءة القرآن خاصة ، فقد رُوي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عبد الله بن مسعود ، بعد أن أرسله إلى الكوفة لتعليم الناس هناك قراءة القرآن فبلَغه أنه يقرئ بلغة هذيل : ( أما بعد : فإن الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش ، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش ، ولا تقرئهم بلغة هذيل ) .
وكل ذلك يقتضي قدرا غير قليل من المعرفة اللغوية التي تميز الخطأ من الصحيح ، وهذه المعرفة وإن كانت شفوية في الراجح ، لكنها تعد أساسا للخطوات اللاحقة في تدوين علم العربية الذي نجد بعض ملامحه قد أخذت تتحدد في عصر الخلافة الراشدة ، على نحو ما سيتضح في الفقرة الآتية .
4- تعليم العربية
إن إنكار اللحن ومكافحته كان يستند أيضا إلى جهد في تعليم النطق الصحيح ، وإن كانت تفاصيل ذلك الجهد غير معروفة اليوم ، لكن الروايات التي نقلتها المصادر تبين أنه كان كبيرا وأنه كان ينبني على معرفة واضحة بخصائص النظام اللغوي للعربية .
فمن الروايات المنقولة عن أبي بن كعب ، وهو من المعلمين الأوائل لقراءة القرآن في المدينة في زمن النبي r أنه قال : ( تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه ) .
وجاء عن عبد الله بن مسعود ، وهو معلم القرآن في الكوفة ، أنه قال : ( أعربوا القرآن فإنه عربي ) .
ونقل عن أبي ذر أنه قال : ( تعلموا العربية في القرآن كما تتعلمون حفظه ) .
وأكبر حملة للتعريب في عصر الخلافة الراشدة جرت في خلافة عمر بن الخطاب t وأعني بالتعريب هنا أمرين : الأول تهذيب النطق العربي من اللحن ، والثاني تعليم غير العربي للغة العربية . ويجد المتتبع لهذا الموضوع في المصادر القديمة صورا متعددة لتلك الحملة ، وهي تكشف عن جوانب مهمة من تاريخ علم العربية لم يتنبه لها الباحثون المحدثون ولم يعتنوا بها .
وأهم أوجه النشاط اللغوي في خلافة عمر ما يأتي :
1- قول عمر : ( تعلموا إعراب القرآن كما تتعلمون حفظه ) .
2- قوله : ( تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة ) .
3- أمر عمر بن الخطاب ألا يقرئ القرآن إلا عالم باللغة .
4- عن أبي عثمان النهدي قال : جاءنا كتاب عمر ، وهم بأذربيجان ، وكان فيه أن تعلموا العربية .
5- كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن مُرْ مَن قِبَلك بتعلم العربية .
6- وسئل الحسن البصري عن تعلم العربية ، أو عن المصحف ينقط بالعربية ، فقال للسائل : أوَما بلغك كتاب عمر بن الخطاب أن تعلموا العربية .
7- وسمع عمر رجلا يتكلم في الطواف بالفارسية ، فأخذ بعضده وقال : ابتغ إلى العربية سبيلا . وعن عطاء قال : رأى عمر بن الخطاب رجلين وهما يتراطنان في الطواف ، فَعَلاهما بالدِّرَّة ، وقال : لا أمَّ لكما ، ابتغيا إلى العربية سبيلا .
8- روى الدارمي عن مُوَرِّق العجلي قال : قال عمر بن الخطاب : تعلموا الفرائض واللحن والسنن كما تعلمون القرآن . قال أبو بكر الأنباري : وحدَّث يزيد بن هارون بهذا الحديث ، فقيل له : ما اللحن ؟ قال : النحو .
إن هذه النصوص ، ومعظمها جاءت في روايات مسندة ، لا يمكن أن يغض الباحث النظر عنها ، ولا بد من محاولة الكشف عن دلالتها في موضوع نشأة النحو وعلم العربية ، وسوف نحاول ذلك ، بعد أن نورد رواية نادرة رواها الصحابي بُرَيْدة بن الحُصَيْب الأسلمي ، وهي توضح ما ورد في النصوص السابقة .
رواية بريد بن الحصيب الأسلمي :
هي من الروايات النادرة الغريبة التي لم يطلع عليها الباحثون في تأريخ النحو العربي ، وكنت قد عثرت عليها أول مرة في كتاب ( التمهيد في معرفة التجويد ) لأبي العلاء العطار ، وقد كان مخطوطا ، ثم في مخطوطة كتاب ( الإيضاح في القراءات ) للأندرابي ، واطلعت عليها أخيرا في كتاب ( الجامع لأخلاق الراوي ) للخطيب البغدادي ، وهو مطبوع . وقد أخرج الرواية مؤلفو الكتب الثلاثة كل بإسناده ، وتلتقي الأسانيد الثلاثة عند محمد بن الفضيل ، ثم تتفق في أسماء السند . وهذا نص الرواية كما رواها الخطيب البغدادي :
( أنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ بأصبهان ، نا محمد بن علي بن حبيش ، حدثنا حبان بن إسحاق البلخي ، نا محمد بن الفضيل ، نا العوام بن حوشب ، نا الخزرج بن أشيم ، عن عبيد الله بن بريدة ، عن أبيه قال :
كانوا يؤمرون ، أو كنا نؤمر ، أن نتعلم القرآن ، ثم السنة ، ثم الفرائض ، ثم العربية : الحروفَ الثلاثة . قال : قلنا وما الحروف الثلاثة ؟ قال الجر والرفع والنصب ) .
ويمكن أن تُدرس هذه الرواية من ثلاث نواح : من ناحية الإسناد ، ومن ناحية المتن ، ومن ناحية تحديد العصر الذي وقع فيه الأمر بالتعلم :
1- ناحية الإسناد :
تلتقي أسانيد المصادر الثلاثة التي أخرجت الرواية عند ( محمد بن الفضيل ) وسنتوقف عنده في تتبع رجال السند ، وهم :
1- بريدة بن الحصيب الأسلمي ، صاحب رسول الله r أسلم عام الهجرة ، وقدم المدينة وسكنها إلى أن مصِّرَت البصرة ، فتحول إليها ، ثم خرج منها غازيا إلى خراسان في خلافة عثمان بن عفان ، فلم يزل بها حتى مات في مَرو في خلافة يزيد بن معاوية ، سنة 62هـ ، وقيل 63هـ .
2- عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي ، قاضي مرو ، ولد لثلاث سنين خلون من خلافة عمر ، وتوفي سنة 115هـ ، من ثقات التابعين ، ووثقه يحيى بن معين ، وأبو حاتم والناس .
3- الخزرج بن أشيم .
4- العوَّام بن حوشب ، قال ابن سعد ، وكان ثقة ، مات سنة 148هـ . ووثقه يحيى بن معين وغيره .
وقد جاء ( أصرم بن حوشب ) مكان ( العوام بن حوشب ) في رواية الأندرابي والعطار . وأصرم هذا متروك الحديث .
5- محمد بن الفضيل ، سماه الأندرابي : محمد بن فضيل العابد . وقد ذكر ابن حبان في كتابه ( الثقات ) : محمد بن الفضيل بن العباس بن الحجاج البلخي العابد وقال : وكان شيخا متقنا .
فرجال الإسناد تغلب عليهم الثقة ، وإذا أزيلت جهالتنا بالخزرج بن أشيم استقام سند الرواية إن شاء الله .
2- ناحية المتن :
قوله : ( كانوا يؤمرون ، أو كنا نؤمر ) : قال الخطيب البغدادي : ( قال أكثر أهل العلم يجب أن يحمل قول الصحابي : ( أمرنا بكذا ) على أنه أمر الله ورسوله . وقال فريق منهم : يجب الوقف في ذلك لأنه لا يؤمَن أن يُعنى بذلك أمر الأئمة والعلماء كما أنه يُعنى بذلك أمر رسول الله r . والقول الأول أولى بالصواب ) .
قوله : ( أن نتعلم القرآن ، ثم السنة ، ثم الفرائض ) : سبق أن ذكرنا الأمر بتعلم القرآن والتفقه في الدين . أما ( الفرائض ) فتحتمل أمرين : الأول : حدود الله التي أمر بها ونهى عنها ، والثاني : المواريث .
أما قوله : ( ثم العربية ) فقد جاءت مفسرة في الرواية .
فمضمون الرواية - إذن - يتفق مع ما جاء في الروايات الأخرى ، وهي لا تختلف في المضمون عن الرواية التي ذكرنا من قبل وقال فيها عمر بن الخطاب t : ( تعلموا الفرائض واللحن والسنن كما تعلمون القرآن ).
3- تحديد العصر الذي وقع فيه الأمر بالتعلم :
إن الأمر بتعلم العربية لم يبرز إلا في خلافة عمر بن الخطاب ، كما يتضح ذلك من مجموعة النصوص التي نقلناها في الفقرة الخاصة بتعليم العربية . ولما كان بريدة بن الحصيب قد أقام بالبصرة طيلة خلافة عمر ، وكان كتاب عمر قد جاء إلى أهل البصرة أن تعلموا العربية ، فإن من المناسب أن يكون الوقت الذي وقع فيه الأمر بتعلم العربية هو في خلافة عمر ، وإن كانت حكاية بريدة له قد وقعت في زمن لاحق ، وفي مكان آخر .
المبحث الثالث
نشأة النحو العربي ودور أبي الأسود الدؤلي فيها - نظرة جديدة
إن النشاط اللغوي المتنوع الذي وقفنا على جوانب منه في المبحث السابق يقتضي من الباحث أن يعيد النظر في أوليه النحو العربي ودور أبي الأسود في ذلك . وهو ما نريد أن نقوم به في هذا المبحث ، بعد أن نحاول تحديد المصطلحات التي تردد ذكرها في النصوص السابقة وهي ( اللحن ، والعربية ، والنحو ) .
أولا : اللحن ، والعربية ، والنحو :
إن تحديد مدلول المصطلحات الثلاثة له علاقة بتحديد بدء الدراسات اللغوية العربية ، لأن هذه المصطلحات هي التي عبّر من خلالها المؤرخون القدماء عن أولية علم العربية ، لكن تحديد مدلولها يجب أن يُراعى فيه المعنى الذي كانت تدل عليه في العصر الذي قيلت فيه النصوص التي وردت فيها هذه المصطلحات ، لا المعاني التي اكتسبتها في الحقب اللاحقة .
1- اللحن :
أثار هذا المصطلح قدرا كبيرا من الجدل بين العلماء المتقدمين والمعاصرين ، والذي يعنينا منه هنا هو ما يحدد دلالته في النصوص التي نقلناها في المبحث السابق . مثل قول عمر بن الخطاب t : ( تعلموا الفرائض واللحن والسنن كما تعلمون القرآن ) ، ومثله قول أبي بن كعب t : ( تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه ) . ولعلماء اللغة العربية الأوائل كلام في توضيح معنى الكلمة في هذه النصوص وفي غيرها يمكن الإفادة منه في هذا المجال .
نقل الأندرابي عن ابن مِقْسَم ( محمد بن الحسن العطار البغدادي ت254هـ ) أنه قال : ( اللحن في كلام العرب :
1- يكون الصواب في الإعراب . 2- ويكون إزالته عن جهته . 3- ويكون التعريض بمعنى لا يظهر في الكلام . 4- ويكون التطريب والتحزين ) .
ونقل ابن منظور عن ابن بَرِّي ( عبد الله بن بري المصري ت582هـ ) أن اللحن ستة معان ، هي : الخطأ في الإعراب ، واللغة ، والغناء ، والفطنة ، والتعريض ، والمعنى أو الفحوي .
وينحصر تفسير العلماء المتقدمين بكلمة ( اللحن ) في النصوص السابقة في معنيين من المعاني المذكورة ، هما : الخطأ في الإعراب ، والصواب في اللغة ، وقد فسّر أبو عبيد القاسم بن سلام الكلمة في قول عمر : تعلموا اللحن والفرائض والسنن كما تعلمون القرآن ، بالخطأ في الكلام . وجعل منه رواية أبي العالية : كنت أطوف مع ابن عباس ، وهو يعلمني لحن الكلام ، وقال : ( إنما سمّاه لحنا لأنه إذا بصّره الصواب فقد بصّره اللحن ) .
وقال أبو بكر الأنباري : ( واللحن حرف من الأضداد ، يقال للخطأ لحن ، وللصواب لحن ) . وقال في معنى الكلمة الواردة في قول أبي بن كعب ( تعلموا اللحن في القرآن ) ، وقول عمر : ( تعلموا اللحن والفرائض ... ) فيجوز أن يكون اللحن الصواب ، ويجوز أن يكون الخطأ ، لأنه إذا عرَف القارئ الخطأ عرف الصواب .
وقال ابن منظور : ( واللحن الذي هو اللغة كقول عمر t : تعلموا الفرائض والسنن واللحن ، كما تعلمون القرآن ، يريد : اللغة ، وجاء في رواية : تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه ، يريد : تعلموا لغة العرب بإعرابها ) .
وكان يزيد بن هارون الواسطي ، وهو أحد أئمة الحديث (ت206هـ) ، قد حدث بحديث عمر : تعلموا الفرائض والسنن واللحن ، فقيل له : ما اللحن ؟ فقال : النحو . وتفسير اللحن بالنحو عند المتقدمين أمر مشتهر حتى إن الرواية المنقولة عن أبي العالية قد رويت هكذا : ( كنت أطوف مع ابن عباس بالبيت وهو يعلمني النحو ) . قال الأزهري : ( واللحن : اللغة والنحو ) . وتفسير ( اللحن ) بالنحو أمر حدث بعد أن تكامل علم النحو واستقرت قواعده ، فيما يظهر ، وهو مبني على أساس أن علم النحو صار يعالج عوارض اللحن في الكلام العربي .
ولا يخرج معنى كلمة ( اللحن ) في النصوص القديمة المذكورة عند أحد أمرين : الخطأ في الكلام ، أو الصواب فيه . وعلى أي منهما حملنا معنى الكلمة فإن ما ورد في الروايات المذكورة يدل على نشاط لغوي منظم يأمر الخلفاء بتعلمه ، ويعمل العلماء عن تعليمه ، فهذا عمر بن الخطاب يقول : تعلموا اللحن ، وهذا عبد الله بن عباس يعلِّم لحن الكلام . وهذا النشاط ، وإن كان يبدو شفويا في جملته ، يمثل النشأة الأولى لعلم النحو العربي والدراسات اللغوية العربية .
2- العربية :
العربية هي لغة العرب . ويمكن أن يكون هذا المعنى هو المقصود في عدد من النصوص التي وردت في المبحث السابق ، مثل قول عمر للرجلين اللذين كانا يتراطنان في الطواف : ابتغيا إلى العربية سبيلا . ولكن الكلمة تحتمل معنى آخر في مثل قول عمر : تعلموا العربية ، وهو يخاطب قوما من العرب ، وتحديد هذا المعنى مفيد في توضيح نشأة النحو العربي .
وجاء في أكثر المصادر القديمة أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من وضع النحو ، وقد مر ذلك في المبحث الأول ، لكن هناك روايات قديمة وردت فيها كلمة ( العربية ) مكان كلمة النحو ، كما جاء في الرواية المنقولة عن عاصم بن أبي النجود (ت128هـ) القارئ المشهور حيث قال : ( أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي ) . ولا يراد بكلمة ( العربية ) في هذا القول وما أشبهه اللغة العربية قطعا ، وإنما يراد بها شيء آخر يتعلق بقواعدها أو خصائصها .
واختلف الباحثون المحدثون في دلالة كلمة ( العربية ) الواردة في قولهم : ( أول من وضع العربية أبو الأسود ) فذهب بعضهم إلى أن المقصود بها نقاط الإعراب التي استخدمها أبو الأسود في تنقيط المصاحف ، قال أحمد أمين : ( فالذي يظهر أنهم يعنون بالعربية هذه العلامات التي تدل على الرفع والنصب والجر والجزم والضم والفتح والكسر والسكون ، والتي استعملها أبو الأسود في المصحف ) .
وذهب بعضهم إلى أنها تدل على لغة البوادي ثم صارت تدل على مجموع قواعد اللغة ، فقال محمد خير الحلواني : ( وقد كان الناس يطلقون على لغة البوادي التي صيغ بها الشعر ونزل بها القرآن اسم ( العربية ) ، كما ترى فيما نُقل عن عمر بن الخطاب : ( تعلموا العربية ، فإنها تشبب ( تثبت ) العقل وتزيد المروءة ) ... وبات من السهر أن يكتسب مدلول الكلمة معنى اصطلاحيا يطلق على دراسة ( العربية ) وما تحتويه من ظواهر ... ) .
وإذا كنا نجد في الروايات القديمة ما يؤيد إطلاق كلمة ( العربية ) على نقط المصاحف ، كقول محمد بن سيف الأزدي : ( سألت الحسن عن المصحف ينقط بالعربية ) . وكقول الليث بن سعد (ت165هـ) : ( لا أرى بأسا أن ينقط المصحف بالعربية ) . وإذا كنا نجد في تطور استخدام الكلمة ما يؤيد إطلاقها على دراسة قواعد اللغة العربية ، فيقال مثلا : علماء العربية ، أي علماء قواعد اللغة العربية - فإن التفسير الملائم لكلمة ( العربية ) الواردة في النصوص القديمة التي ترجع إلى العقود الأولى من القرن الأول الهجري هو التفسير الوارد في رواية بريدة بن الحصيب الأسلمي ، وهو ما نحاول توضيحه هنا .
جاء في رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه : ( كانوا يؤمرون ، أو كنا نؤمر ، أن نتعلم القرآن ، ثم السنة ، ثم الفرائض ، ثم العربية : الحروف الثلاثة ، قلنا : وما الحروف الثلاثة ؟ قال : الجر والرفع والنصب ) .
وكنا قد ناقشنا مضمون هذه الرواية ، ونكتفي هنا بالوقوف عند تفسير كلمة ( العربية ) بالحروف الثلاثة . ويبدو أن المراد بالحروف الثلاثة هنا حركات الإعراب ، التي اكتسبت اسم الحركات في وقت متأخر عن زمن الرواية . ويؤيد هذا التفسير ما جاء في آخرها ( الجر والرفع والنصب ) . ويؤيده أيضا قول ابن جني : ( وقد كان متقدمو النحويين يسمون الفتحة الألف الصغيرة ، والكسرة الياء الصغيرة ، والضمة الواو الصغيرة ، وقد كانوا في ذلك على طريق مستقيمة ) وهو قول يمكن أن يستدل به على أنهم كانوا يسمون الحركات حروفا .
أما مصطلحات ( الجر والرفع والنصب ) فإن ورودها في الرواية يثير تساؤلا عن وقت ظهورها واستخدامها ، ويبدو أنها كانت مستخدمة قبل منتصف القرن الأول الهجري . ويؤيد ذلك رواية نقلها الحلبي جاء فيها : ( وكان أبو الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي - عليه السلام - لأنه سمع لحنا ، فقال لأبي الأسود أجعل للناس حروفا ، وأشار له إلى الرفع والنصب والجر ) .
إن هذه الروايات كان ينظر إليها بعين الارتياب من قبل الباحثين المحدثين ، ولكني أجد الآن أن بعضها يفسر بعضا ، ويكمل بعضها بعضا . وأجد أن تفسير العربية بالحركات متناسب مع قول العلماء إن أول ما ظهر الاختلال فيه من كلام العرب كان في حركات الإعراب ، وأن هذا التفسير يتلاءم مع السياق الذي وردت فيه الكلمة في الروايات القديمة المنقولة من العقود الأولى للقرن الأول من الهجرة .
فمن ذلك الرواية التي نقلها البخاري - رحمه الله تعالى - حول انتساخ المصاحف ، وجاء فيها أن عثمان بن عفان t قال للصحابة الذين كانوا ينسخون المصاحف : ( إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسانهم ، فإنما نزل بلسانهم ) وجاء في رواية : ( إذا اختلفتم .. في عربية من عربية القرآن ) .
وكذلك ما جاء في ترجمة زر بن حبيش الأسدي تلميذ عبد الله بن مسعود ، عن عاصم بن أبي النجود ، وهو تلميذ زر أنه قال : ( كان زر بن حبيش أعرب الناس ، وكان عبد الله يسأله عن العربية ) .
وكان ابن عباس يعلِّم اللحن في رواية أبي العالية ، وقال عمر بن دينار (ت125هـ) : ( ما رأيت مجلسا قط أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس : للحلال والحرام ، وتفسير القرآن ، والعربية ، والشعر ، والطعام ) ، وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وهو تلميذ ابن عباس : ( كان ابن عباس قد فات الناس بخصال ... وما رأيت أحدا كان أعلم ... بشعر ولا عربية ولا بتفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه ) .
فكلمة ( العربية ) في هذه النصوص يراد بها الإعراب الذي يُستدل عليه بالحركات الثلاث في آخر الكلمات العربية ، ويكون معنى قول عمر : ( تعلموا العربية ) تعلموا الإعراب الذي يقتضي معرفة مواقع الكلمات في الجمل ، لتحديد نوع الحركة التي تنطق في آخر الكلمة ، وسبب التأكيد على الإعراب هو أن الاختلال واللحن ظهر أولا في حركات الإعراب في أواخر الكلمات ، فلفت نظر العلماء وأولي الأمر ، فنبهوا الناس إليه ، وأرشدوهم إلى اجتنابه ، وقد غابت عنا تفصيلات ذلك الجهد المبكر في تأسيس علم العربية ، وبقيت منه هذه اللمحات الدالة عليه .
وإذا صح تفسير كلمة ( العربية ) ، المستعملة في عصر صدر الإسلام ، بحركات الإعراب خاصة ، كما ورد في رواية بريدة ، دلت الروايات التي وردت فيها هذه الكلمة على نشاط لغوي يتصل بتركيب الجملة ، لأن حركات الإعراب تتغير بتغير مواقع الكلمات في الجمل ، وعلى المتكلم ملاحظة ذلك حتى يستقيم كلامه ويكون صحيحا . وقد يكون جانب كبير من هذا النشاط غير مدون . وهو أمر لا يقلل من أهمية هذه الحقبة من تأريخ علم العربية لأن تدوين المعرفة اللغوية التي تراكمت فيها قد تم بعد سنوات قليلة على يد أبي الأسود وتلامذته .
3- النحو :
النحو مصدر الفعل ( نحا ينحو ) بمعنى قصد ، وصار اسما للعلم الذي يُعنى ببيان قواعد اللغة العربية . ويرى بعض الباحثين المحدثين أن هذا المصطلح تأخر ظهوره عن الوقت الذي ظهر فيه مصطلح العربية ، ويرى بعضهم أن أبا الأسود ربما لم يكن يعرف اسم النحو بتاتا ، ويقدِّر آخرون أنه ظهر في عصر الطبقة التي عاش فيها تلامذته .
ومهما يكن الأمر فإن ظهور مصطلح النحو لم يتأخر كثيرا عن الحقبة التي استخدم فيها مصطلح العربية ، ونجده يستخدم مرادفا له فيقال أحيانا : أول من وضع النحو أبو الأسود الدؤلي . أو يقال : إن الحسن وابن سيرين كانا يكرهان نقط المصحف بالنحو ، وكذلك كان قتادة يكره أن ينقط المصحف بالنحو . والعبارة المشهورة القديمة هي نقط المصاحف بالعربية .
وكانت كلمة النحو تستخدم مرادفة لكلمة الإعراب ، فقد ورد في لسان العرب : ( النحو : إعراب الكلام العربي ) . وورد فيه : ( والإعراب الذي هو النحو هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ ) . ثم غلب استخدام مصطلح النحو وصار علَما على المباحث المتعلقة بقواعد اللغة العربية سواء كان ذلك من ناحية المفردات أم التركيب . وقد قال ابن جني في تعريف النحو ( هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره ) .
ولعلماء اللغة العربية الأوائل والباحثين المحدثين كلام في تفسير تسمية هذا العلم بالنحو ، فالمتقدمون يربطون بين الدلالة اللغوية والمعنى الاصطلاحي ، يقول الزجاجي في سبب التسمية : إن أبا الأسود ( وضع كتابا فيه جمل العربية وقال لهم : انحوا هذا النحو ، أي اقصدوه ، والنحو : القصد ، فسُمي لذلك نحوا ) . أو أن الإمام عليا t قال لأبي الأسود حين عرض عليه ما وضعه من أبواب النحو : ( ما أحسن هذا النحو الذي قد نحوتَ ، فلذلك سُمِّي النحو ) .
ويذهب الباحثون المحدثون مذهبا قريبا من ذلك حين يربطون بين التسمية ومعنى الكلمة في أصل اللغة ، ويستأنسون بالروايات القديمة التي ورد فيها مثل ( انح هذا النحو) أو ( ما أحسن هذا النحو الذي نحوت ) . وأنكر بعضهم الربط بين التسمية ( هو أن المؤدبين أو المقرئين كانوا يستخدمون كلمة ( نحو ) ليدلوا بها على الطريقة العربية في عبارة ما ، كأن يقول بعضهم لبعض : العرب تنحو في هذا كذا ، أو نحو العرب في هذا كذا ، أو أن يسأل سائل : كيف تنحو العرب في هذا ؟ أو أن يقولوا : فلان ينحو في كلامه نحو العرب ) .
ولا ينبني على هذا الاختلاف في أصل التسمية شيء بما نبحث عنه هنا حول تاريخ بدء البحث اللغوي العربي ، وإذا صح ما يذهب إليه بعض الباحثين من أن مصطلح النحو ظهر بعد مصطلح العربية ، فإن ذلك يعني أن ظهور هذا المصطلح لا يقدم إضافة جديدة في الموضوع الذي نحن بصدده .
ثانيا : أبو الأسود الدؤلي وعلاقته بنشأة النحو العربي :
إن النشاط اللغوي الذي تتبعنا صوره في المبحث الثاني يمثل بدء الدرس الغوي العربي ، ويمكن أن نلاحظ على ذلك النشاط أنه :
1- كان شفويا في جملته ، فلم يدون في كتاب .
2- كان واسعا شمل النازلين في الأمصار الإسلامية من العرب وغيرهم .
3- كان معظم ذلك النشاط قد تم في خلافة عمر بن الخطاب t ، ويمكن أن نلاحظ هنا ( أن السياسة الواسعة الأفق التي امتاز بها الخليفة الثاني ... قامت بقسط لا يستهان به في سبيل توحيد اللغة ، وإنشاء لسان مشترك بين قبائل البدو جميعا ، كما حفظت العربية من الاضمحلال والانحلال ) .
4- كان معظم ذلك النشاط يدور حول حركات الإعراب الذي يمثل أوضح خاصية في العربية ، والذي كان أول ما اختل من كلام العرب فأحوج إلى التعلم . ورواية بريدة بن الحصيب تشير إلى ذلك .
ونحن إذ نستخلص من مجموع الروايات أن نشأة النحو أو علم العربية تقترن ببدء نزول القرآن وقراءته ، وأن المعرفة اللغوية المنظمة كانت تزداد كلما تقدمت السنين ، فإننا نعُدُّ ما قام به أبو الأسود الدؤلي وتلامذته مرحلة جديدة في تاريخ الدراسات اللغوية العربية انتقلت فيها من مرحلة الرواية الشفهية للمادة اللغوية إلى مرحلة التدوين . ويمكن أن نلخص عمل أبي الأسود الدؤلي في أمرين :
الأول : تدوين الملاحظات التي استخلصها علماء الطبقة الأولى ، وهم الصحابة وقول المؤرخين الأوائل : إن أبا الأسود هو أول من وضع العربية ، أو أول من أسس العربية ، يعني في تقديري أنه أول من دوّن الملاحظات المتعلقة بقواعد اللغة .
والآخر : اختراع علامات الحركات ، وهو المسمَّى نقْط أبي الأسود ، الذي طبَّقه في المصاحف أولا ، فالكتابة العربية كانت تفتقر إلى علامات الحركات ، وما قام به في هذا المجال يُعد إنجازا كبيرا استطاع الخليل بن أحمد أن يتممه بتحويل النقاط إلى علامات الحركات المستعملة في الكتابة العربية إلى زماننا .
وكانت مظاهر اللحن التي ازدادت في عصر أبي الأسود من أهم العوامل التي دفعته إلى العناية بموضوع تدوين الملاحظات اللغوية المتعلقة بحركات الإعراب خاصة التي كانت موضع عناية العلماء وأولي الأمر في عصر الخلافة الراشدة ، كما أن ما ينسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t من ملاحظات في هذا المجال يبدو طبيعيا ، إذا تصورنا أن عناية الخلفاء الراشدين كانت مستمرة بهذا الموضوع ، وأن الأحداث التي وقعت في آخر عصر الخلافة الراشدة قد غطت على أخبار النشاط اللغوي الذي لم ينقطع ، وعاد ليواصل مسيرته الصاعدة في أول فرصة هدأت فيها الأمور .
وكان النشاط اللغوي العربي قد بدأ في الحجاز ، خاصة في مدينة رسول الله وكان الخلفاء الراشدون يوجهون ذلك النشاط ، ثم انتقل مركز ذلك النشاط إلى العراق بسبب عاملين ؛ الأول : اهتمام عمر بن الخطاب t بتعليم أهل العراق ، فأرسل علماء الصحابة إلى الكوفة والبصرة ، وكانت رسائله تَرد عليهم وتأمرهم بتعلم العربية وقراءة القرآن بالعربية الفصحى . والثاني : انتقال مركز الخلافة إلى العراق في آخر عصر الخلافة الراشدة ، وظهور طبقة من العلماء من تلامذة الصحابة وعلى رأسهم أبو الأسود الدؤلي ذو المواهب المتعددة الذي وصفه ياقوت بأنه ( أحد سادات التابعين ، والمحدثين ، والفقهاء ، والشعراء ، والفرسان ، والأمراء ، والأشراف ، والدهاة ، والحاضري الجواب ... ) .
وواصل تلامذة أبي الأسود عملهم في تكميل ما دوّنه أستاذهم ، ( وكان ممن أخذ ذلك عنه يحيى بن يَعْمَر ... وأخذ ذلك عنه أيضا ميمون الأقرن ، وعنبسة الفيل ، ونصر بن عاصم الليثي ، وغيرهم ، ثم كان من بعدهم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي ، فكان أول من بَعَجَ النحو ، ومد القياس والعلل ... ) ، ( ثم وصل ما أصّلوه من ذلك التالون لهم ، والآخذون عنهم ، فكان لكل واحد منهم من الفضل بحسب ما بسط من القول ، ومد من القياس ، وفتق من المعاني ، وأوضح من الدلائل وبيّن من العلل ) .
ولا يخفى على القارئ أن القول بأن أبا الأسود هو أول من وضع العربية أو دوّن النحو لا يعني أنه دوّن هذا العلم بكل تفصيلاته ، وإنما وضع أصولا عامة تتعلق بحركات الإعراب ، ومعنى وضعه باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الجر والرفع والنصب والجزم أنه دوّن ملاحظات تشير إلى حالات الرفع والنصب والجر في آخر الكلمات .
ونقل محمد بن سلام الجمحي قصة تصور للقارئ المقدار الذي أسهم به العلماء الأوائل الذي أسسوا النحو العربي . قال : ( سمعت أبي يسأل يونس عن ابن أبي إسحاق وعلمه ، قال : هو والنحو سواء ، وهو الغاية . قال : فأين علمه من علم الناس اليوم ؟ قال : لو كان في الناس اليوم مَن لا يعلم إلا علمه لضُحك منه ... ) .
ولا يخفى عليك أن ابن أبي إسحاق هذا هو عبد الله الذي كان أول من بعج النحو وسد القياس والعلل ، وهو تلميذ تلامذة أبي الأسود وكانت وفاته سنة 117هـ . ويونس هو ابن حبيب أحد شيوخ سيبويه ، وكانت وفاته سنة 182هـ . وما ورد في هذه القصة يدل على نمو النحو العربي نموا سريعا في القرن الثاني ، وأن بدايات هذا العلم كانت يسيرة ، تناسب النشأة العربية الخالصة لهذا العلم التي بدأت من تعلُم الكتابة وحروف الأبجدية العربية وقراءة القرآن الكريم وتلاوته في عصر النبوة وعصر الخلافة الراشدة ، ثم تطورت لتركز على الإعراب وضبط حركاته ، وانتهت ببيان كل ما يتعلق بتركيب الكلام العربي .
الخاتمة
إن العناية بأمر اللغة كانت جزءا من التغيير الشامل الذي أحدثه الإسلام في حياة العرب ، فلم يكن لهم درس لغوي منظم قبل الإسلام ، وإنما كانوا يعنون بالفصاحة والبلاغة في هدي من ملكتهم اللغوية التي كانت تسعفهم بها سليقة لغوية أصلية . وأنزل القرآن الكريم بلغتهم فكان أول كتاب مدون تشهده العربية .
وتُعد الجهود التي بذلها المسلمون الأوائل في مجال قراءة القرآن وكتابته بداية للدرس اللغوي العربي ، إذ إن قراءة القرآن وحَّدت الشكل السائد للعربية الفصحى ، وإن كتابته قد نقلت الكتابة العربية إلى مرحلة الاستخدام الواسع التي تبعها تكميل جوانب النقص فيها المتمثلة باختراع علامات الحركات ، ونقاط الإعجام التي ميزت بين الحروف المتشابهة في الصورة .
إن المصادر القديمة تنسب نشأة النحو العربي إلى أبي الأسود الدؤلي (ت69هـ) الذي اخترع نظام الحركات بالنقاط ، بينما تقف أكثر المصادر الحديثة موقف المتشكك من ذلك ، وتكتفي بتأكيد اختراعه لنقاط الحركات التي استخدمها في ضبط المصحف . وما ورد في هذا البحث يؤكد ما جاء في المصادر القديمة ويضيف إليه أمرين :
الأول : أن نشأة النحو العربي ترجع إلى حقبة أقدم من عصر أبي الأسود ، تبدأ بنزول القرآن الكريم ، وتتمثل بالملاحظات التي أبداها العلماء حول مكافحة اللحن وتعلم العربية في عصر الخلافة الراشدة ، خاصة في خلافة عمر بن الخطاب الذي أبدى عناية كبيرة باللغة العربية وتعليمها .
والآخر : أن دور أبي الأسود الدؤلي يتركز في نقطتين : الأولى تدوين الملاحظات اللغوية التي كان يتداولها المهتمون بأمر سلامة اللغة ، ومن ثم قال المؤرخون أول من وضع العربية أبو الأسود ، ونحن نفسر كلمة ( وضع ) بمعنى دوّن . والنقطة الثانية هي نقْط المصحف الذي لم يختلف في نسبته إليه المتقدمون ولا المحدثون .
إن ما ورد في البحث يؤكد النشأة العربية الخالصة لعلم النحو العربي ، ويوضح المرحلة الأولى من تاريخ هذا العلم التي وصفها كثير من الباحثين بالغموض الذي نقدِّر أن كثيرا منه قد تبدد بما ورد في هذا البحث ، إن شاء الله تعالى .
0 Response to "النحو العربي قبل أبي الأسود الدؤلي"
Post a Comment
Silahkan Berkomentar Sesuai Dengan Topik Pembahasan
Komentar Yang Mengandung Link Aktif Kami Anggap Sebagai Spam..!!